للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ غَيْرُ هَذَا، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْحَقِّ مُدَّعِيًا لِقَضَائِهِ، بَلْ مُنْكِرًا الْآنَ لِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَيْفَ يُلْزَمُ بِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ أَقَرَّ بِثُبُوتٍ سَابِقٍ وَادَّعَى قَضَاءً طَارِئًا عَلَيْهِ.

قِيلَ: لَمْ يُقِرَّ بِثُبُوتٍ مُطْلَقٍ بَلْ بِثُبُوتٍ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ وَهُوَ الزَّمَنُ الْمَاضِي، وَلَمْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ الْآنَ فِي ذِمَّتِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ بِهِ الْآنَ اسْتِنَادًا إلَى إقْرَارِهِ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْكِرٍ ثُبُوتَهُ فِي الْمَاضِي، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْكِرٌ لِثُبُوتِهِ الْآنَ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقِرًّا بِمَا هُوَ مُنْكِرٌ لَهُ؟ وَقِيَاسُهُمْ هَذَا الْإِقْرَارَ عَلَى قَوْلِهِ: " لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي أَوْ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِي " قِيَاسٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ لَا يُعْقَلُ، وَأَمَّا هَذَا فَكَلَامٌ مَعْقُولٌ، وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ، وَلَمْ يُقِرَّ بِشَغْلِ ذِمَّتِهِ الْآنَ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ شَغْلُ ذِمَّتِهِ بِهِ بِنَاءً عَلَى إقْرَارِهِ بِشَغْلِهَا فِي الْمَاضِي، وَمَا نَظِيرُ هَذَا إلَّا قَوْلُ الزَّوْجِ: " كُنْت طَلَّقْت امْرَأَتِي وَرَاجَعْتهَا " فَهَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُطَلِّقًا الْآنَ؟ وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كُنْت فِيمَا مَضَى كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمْت، فَهَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَافِرًا الْآنَ؟ .

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كُنْت عَبْدًا فَأَعْتَقَنِي مَوْلَايَ، هَلْ يُجْعَلُ بِهَذَا الْكَلَامِ رَقِيقًا؟ فَإِنْ طَرَدُوا الْحُكْمَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَطَلَّقُوا الزَّوْجَ وَكَفَّرُوا الْمُعْتَرِفَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ وَأَمَرُوهُ أَنْ يُجَدِّدَ إسْلَامَهُ وَجَعَلُوا هَذَا قِنًّا.

قِيلَ لَهُمْ: فَاطْرُدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ أَوْ هَذَا الْبُسْتَانُ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ لِفُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ، فَأَخْرِجُوهَا مِنْ مِلْكِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَقُولُوا: قَدْ أَقَرَّ بِهَا لِفُلَانٍ ثُمَّ ادَّعَى [أَنَّهُ] اشْتَرَاهَا فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فَمَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى لِسَانِهِ وَقَالَ الْوَاقِعَ فَأَخْرِجُوا مِلْكَهُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: كُنْت مُزَوَّجَةً بِفُلَانٍ ثُمَّ طَلَّقَنِي، اجْعَلُوهَا بِمُجَرَّدِ هَذَا الْكَلَامِ زَوْجَتَهُ، وَالْكَلَامُ بِآخِرِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ بَعْضُهُ وَيُلْغَى بَعْضُهُ، وَيُقَالُ قَدْ لَزِمَك حُكْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ عَلَيْنَا مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِك؛ فَإِنَّ هَذَا يَرْفَعُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدَاتِ جَمِيعَهَا، وَهَذَا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ.

ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ لَا يَقْبَلُ الْجَوَابَ إلَّا عَلَى وَفْقِ الدَّعْوَى يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ التَّخَلُّصِ مِنْ ظُلْمِ الْمُدَّعِي، وَيُلْجِئُهُ إلَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ الْإِضْرَارُ بِهِ وَظُلْمُهُ، أَوْ إلَى أَنْ يُكَذِّبَ بَيَانَهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَدَانَ مِنْهُ وَوَفَّاهُ، فَإِنْ قَالَ: " لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ " لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْ عَلَى نَفْيِ الدَّعْوَى، وَإِنْ قَالَ: " كُنْت اسْتَدَنْت مِنْهُ وَوَفَّيْته " لَمْ تَسْمَعُوا مِنْهُ آخِرَ كَلَامِهِ وَسَمِعْتُمْ مِنْهُ أَوَّلَهُ، وَإِنْ قَالَ: " لَمْ أَسْتَدِنْ مِنْهُ " وَكَانَ كَاذِبًا فَقَدْ أَلْجَأْتُمُوهُ إلَى أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَكْذِبَ وَلَا بُدَّ؛ فَالْحِيلَةُ لِمَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ التَّوْرِيَةَ، وَيَحْلِفَ مَا اسْتَدَانَ مِنْهُ، وَيَنْوِيَ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً، فَإِذَا قَالَ: " وَاَللَّهِ إنِّي مَا اسْتَدَنْت مِنْهُ " أَيْ إنِّي الَّذِي اسْتَدَنْت مِنْهُ، وَيَنْفَعُهُ تَأْوِيلُهُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا، كَمَا لَا يَنْفَعُهُ إذَا كَانَ ظَالِمًا بِالِاتِّفَاقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>