للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طَرِيقٍ جَائِزٌ، بَلْ لَا يَقْتَضِي الْمَذْهَبُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مَظْلُومٌ تَوَصَّلَ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ بِطَرِيقٍ لَمْ يُسْقِطْ بِهَا حَقًّا لِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ؛ فَلَا خَرَجَ بِهَا مِنْ حَقٍّ، وَلَا دَخَلَ بِهَا فِي بَاطِلٍ.

وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَيَجْحَدُهُ وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ بِهِ حَتَّى تُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ، فَطَرِيقُ الْحِيلَةِ أَنْ تُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةَ فُلَانٍ، وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ إقْرَارًا كَاذِبًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ لِأَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِ مَالِي عِنْدَهُ، فَاشْهَدُوا أَنَّ إقْرَارِي بِالزَّوْجِيَّةِ بَاطِلٌ أَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ حَقِّي.

وَنَظِيرُهُ أَيْضًا أَنْ يُنْكِرَ نَسَبَ أَخِيهِ، وَيَأْبَى أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِهِ حَتَّى يُشْهِدَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ فِي تَرِكَةِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَأَنَّهُ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ مَا يَخُصُّهُ مِنْهَا، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَهُ أَوْ اعْتَاضَ عَنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيُودِعُ الشَّهَادَةَ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ، وَأَنَّهُ يُظْهِرُ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ تَوَصُّلًا إلَى إقْرَارِ أَخِيهِ بِنَسَبِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ شَيْئًا، وَلَا أَبْرَأَ أَخَاهُ، وَلَا عَاوَضَهُ، وَلَا وَهَبَهُ.

[الْحِيلَةُ فِي إقْرَارِ الْمُضْطَهَدِ]

[إقْرَارُ الْمُضْطَهَدِ]

وَهَذَا يُشْبِهُ إقْرَارَ الْمُضْطَهَدِ الَّذِي قَدْ اُضْطُهِدَ وَدُفِعَ عَنْ حَقِّهِ حَتَّى يُسْقِطَ حَقًّا آخَرَ، وَالسَّلَفُ كَانُوا يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذَا مُضْطَهَدًا، كَمَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَأَرَادَ سَفَرًا، فَأَخَذَهُ أَهْلُهَا، فَجَعَلَهَا طَالِقًا إنْ لَمْ يَبْعَثْ بِنَفَقَتِهَا إلَى شَهْرٍ، فَجَاءَ الْأَجَلُ، وَلَمْ يَبْعَثْ إلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَلَمَّا قَدِمَ خَاصَمُوهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَقَالَ: اضْطَهَدْتُمُوهُ حَتَّى جَعَلَهَا طَالِقًا، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إكْرَاهٌ بِضَرْبٍ، وَلَا أَخْذِ مَالٍ، وَإِنَّمَا طَالَبُوهُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهَا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَنَّتُوهُ بِالْيَمِينِ جَعَلَهُ مُضْطَهَدًا؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ؛ لِيَتَوَصَّلَ إلَى قَصْدِهِ مِنْ السَّفَرِ، فَلَمْ يَكُنْ حَلِفُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ، بَلْ هُوَ كَالْمَحْمُولِ عَلَيْهِ.

[الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضْطَهَدِ وَالْمُكْرَهِ] وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَاصِدٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِاحْتِمَالِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَاصِدٌ لِلْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ بِالْتِزَامِ مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ رَاضٍ، وَلَا مُؤْثِرًا لِمَا الْتَزَمَهُ، وَلَيْسَ لَهُ وَطَرٌ فِيهِ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا، وَنَزِّلْهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - لَمْ يَكُنْ يَرَى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ إذَا حَنِثَ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>