للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِ وَطْءٍ مُبَاحٍ، فَلَا تَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ الْمُحَرَّمَ، فَيُقَالُ: إذَا كَانَ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى وَطْءٍ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا لَمْ تَتَنَاوَلْ يَمِينُهُ الْمُحَرَّمَ فَلَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ بِعَيْنِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ يَمِينَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا فَلَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ بِمَنْعِ ظَالِمٍ كَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ أَوْ غَيْرِ ظَالِمٍ كَالْمُسْتَحَقِّ فَهَلْ يَحْنَثُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَشْهَبُ: لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا ذُكِرَ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ بَاقٍ، وَإِنَّمَا حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ فِيهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْإِدَاوَةِ غَدًا فَأُرِيقَ قَبْلَ الْغَدِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَلَى قَوْلَيْ الْإِكْرَاهِ، قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ، وَإِنْ حَنَّثْنَا الْمُكْرَهَ لِعَجْزِهِ عَنْ الشُّرْبِ وَقُدْرَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَجَعَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَاجِزَ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَسَوَّى غَيْرُهُ بَيْنَهُمَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولَهَا تَشْهَدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ الشَّارِعِ نَظِيرُ الْحَضِّ وَالْمَنْعِ فِي الْيَمِينِ، وَكَمَا أَنَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ مَنُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَلَا وَاجِبَ مَعَ عَجْزٍ وَلَا حَرَامَ مَعَ ضَرُورَةٍ فَكَذَلِكَ الْحَضُّ وَالْمَنْعُ فِي الْيَمِينِ إنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِالْقُدْرَةِ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَالِفَ يَعْلَمُ أَنَّ سِرَّ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ فِعْلَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ الْمَغْلُوبُ عَلَى الْفِعْلِ بِنِسْيَانٍ أَوْ إكْرَاهٍ، وَلَا مَنْ لَا قَصْدَ لَهُ إلَيْهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ خِلَافَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ: إذَا حَلَفَ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ فَانْصَبَّ فَقَدْ حَنِثَ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ رَغِيفًا فَجَاءَ كَلْبٌ فَأَكَلَهُ فَقَدْ حَنِثَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَالَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ مُخَاتَلَةً فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَهَذَا، وَأَمْثَالُهُ مِنْ نُصُوصِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَالْجَاهِلِ " إنَّهُ يَحْنَثُ " كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ فَحُمِلَ كُرْهًا فَأُدْخِلَ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى حِنْثِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فَقَدْ جَعَلَ النَّاسِيَ وَالْجَاهِلَ وَالْمُكْرَهَ وَالْعَاجِزَ بِمَنْزِلَةٍ، وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ فَحُمِلَ كُرْهًا فَأُدْخِلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ: وَالذُّبَابُ يَدْخُلُ حَلْقَ الصَّائِمِ وَالرَّجُلِ يَرْمِي بِالشَّيْءِ فَيَدْخُلُ حَلْقَ الْآخَرِ وَكُلُّ أَمْرٍ غُلِبَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَتَوَاتَرَتْ نُصُوصُهُ فِيمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>