للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ عَدَمَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْحَالِفِ إذَا حَنِثَ عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا ذَكَرَهُ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُد فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُ أَخَاهُ، فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ طَلَاقًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: ١٦٨] .

وَمَنْ تَأَمَّلَ الْمَنْقُولَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَجَدَهُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَصَرِيحٌ فِي الْوُقُوعِ، وَظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَتَوَقَّفَ عَنْ الطَّرَفَيْنِ، فَالْمَنْقُولُ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَشُرَيْحٍ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَعَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ صَرِيحٌ فِي التَّوَقُّفِ.

وَأَمَّا التَّصْرِيحُ بِالْوُقُوعِ فَلَا يُؤْثَرُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ إلَّا فِيمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ لِإِرَادَةِ الْوُقُوعِ عِنْدَ الشَّرْطِ، كَالْمَنْقُولِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، بَلْ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِي صُورَةِ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالنُّفُوذِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ: الْقِيَاسُ أَنَّ الطَّلَاقَ مِثْلُهُ، إلَّا أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، فَتَوَقَّفَ فِي الطَّلَاقِ لِتَوَهُّمِ الْإِجْمَاعِ.

وَهَذَا عُذْرُ أَكْثَرِ الْمُوقِعِينَ لِلطَّلَاقِ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْوُقُوعِ، مَعَ اعْتِرَافِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ تَبَيَّنَ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مُعَارَضَتُهَا بِدَعْوَى إجْمَاعٍ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهُ قَطْعًا؟ فَلَيْسَ بِأَيْدِي الْمُوقِعِينَ آيَةٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إلَّا الِاسْتِصْحَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إلَّا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ لَكَانَ كَافِيًا، فَكَيْفَ وَمَعَهُمْ الْأَقْيِسَةُ الَّتِي أَكْثَرُهَا مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى؟

وَالْبَاقِي مِنْ الْقِيَاسِ الْمُسَاوِي، وَهُوَ قِيَاسُ النَّظِيرِ عَلَى نَظِيرِهِ، وَالْآثَارُ وَالْعُمُومَاتُ وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ وَالْحِكَمُ وَالْمُنَاسِبَاتُ الَّتِي شَهِدَ لَهَا الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ مَا لَمْ يَدْفَعْهُمْ مُنَازِعُوهُمْ عَنْهُمْ بِحُجَّةٍ أَصْلًا؟ وَقَوْلُهُمْ وَسَطٌ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ غَايَةَ التَّبَايُنِ:

أَحَدُهُمَا قَوْلُ مَنْ يَعْتَبِرُ التَّعْلِيقَ فَيُوقِعُ بِهِ الطَّلَاقَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ تَعْلِيقًا قَسَمِيًّا يَقْصِدُ بِهِ الْحَالِفُ مَنْعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَوْ تَعْلِيقًا شَرْطِيًّا يَقْصِدُ بِهِ حُصُولَ الْجَزَاءِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ، وَالثَّانِي قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ هَذَا التَّعْلِيقَ كُلَّهُ لَغْوٌ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ مَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ أَلْبَتَّةَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَخْرَجِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَؤُلَاءِ تَوَسَّطُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالُوا: يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْمَقْصُودِ بِهِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ، وَلَا يَقَعُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْقَسَمِيِّ، وَحُجَّتُهُمْ قَائِمَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ كُلُّ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ احْتَجَّ بِهَا الْمُوقِعُونَ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ الْمَقْصُودِ.

وَكُلُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>