للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِثْلُهُ لَوْ قُدِّمَتْ لَهُ دَابَّةٌ لِيَرْكَبَهَا فَظَنَّهَا قَطُوفًا أَوْ جَمُوحًا أَوْ مُتَعَسِّرَةَ الرُّكُوبِ فَحَلَفَ لَا يَرْكَبُهَا فَظَهَرَتْ لَهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِهَا.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَيَرْجِعُ فِي الْأَيْمَانِ إلَى النِّيَّةِ؛ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا رَجَعَ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا.

وَقَالَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إذَا دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَتَغَدَّى أَوْ قِيلَ لَهُ اُقْعُدْ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَقْعُدَ اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِذَلِكَ الْغَدَاءِ وَبِالْقُعُودِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ عَاقِلًا لَا يَقْصِدُ أَنْ لَا يَتَغَدَّى أَبَدًا وَلَا يَقْعُدُ أَبَدًا.

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: إنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ فَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا لِظُلْمٍ رَآهُ فِيهِ فَزَالَ الظُّلْمُ، قَالَ أَحْمَدُ: النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ، يَعْنِي لَا يَدْخُلُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا كَانَ عَامًّا لِسَبَبٍ خَاصٍّ وَجَبَ الْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ، كَذَلِكَ يَمِينُ الْحَالِفِ.

وَنَازَعَهُ فِي ذَلِكَ شَيْخُنَا، فَقَالَ: إنَّمَا مَنَعَهُ أَحْمَدُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ بَعْدَ زَوَالِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّهُ نَذَرَ لِلَّهِ أَلَّا يَدْخُلَهَا، وَأَكَّدَ نَذْرَهُ بِالْيَمِينِ، وَالنَّذْرُ قُرْبَةٌ، فَقَدْ نَذَرَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِهِجْرَانِ ذَلِكَ الْبَلَدِ؛ فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَهُ.

هَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَجَابَ بِهِ السَّائِلُ حَيْثُ قَالَ: النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِمْ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ لِلَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْعَوْدُ فِيهَا، وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَكُوهَا لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ تَرْكِ الْبَلَدِ لِلظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ الَّتِي فِيهِ إذَا نَذَرَهُ النَّاذِرُ؛ فَهَذَا سِرُّ جَوَابِهِ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُ الَّذِي عَلَيْهِ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ وَالسَّبَبِ فِي الْيَمِينِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْحَالِفِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا فِي نُصُوصِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا.

وَأَمَّا مَذْهَبُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ فِي كِتَابِ الذَّخَائِرِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ:

الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي تَقْيِيدِ الْأَيْمَانِ الْمُطْلَقَةِ بِالدَّلَالَةِ، إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ مِنْ الدَّارِ فَقَالَ الزَّوْجُ " إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَجَلَسَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَضْرِبَهُ فَحَلَفَ آخَرُ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ، فَهَذَا عَلَى تِلْكَ الضَّرْبَةِ، حَيٌّ لَوْ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ، وَيُسَمَّى هَذَا يَمِينُ الْفَوْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخَرْجَةَ الَّتِي قَصَدَ وَالضَّرْبَةَ الَّتِي قَصَدَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْمَنْعِ مِنْهَا عُرْفًا وَعَادَةً؛ فَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فَقَالَ: تَعَالَى تَغَدَّ مَعِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، فَذَهَبَ إلَى بَيْتِهِ وَتَغَدَّى مَعَ أَهْلِهِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: كُلْ مَعَ فُلَانٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهُ لَا آكُلُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَقْرِيرَ ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>