للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي رَاعَاهُ مَالِكٌ حَسَنٌ فِي الْأُمُورِ الَّتِي الشَّخْصُ مُخَيَّرٌ فِيهَا كَالتَّفْرِقَةِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جَائِزٌ شَرْعًا فَاخْتَارَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ وَنَدَبَ إلَيْهَا فَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهَا وَلَا يَسُوغُ تَرْكُهَا خَوْفًا مِنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ فَيَقَعُ فِيمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْبِدْعَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرَغْت مِنْهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرَ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ. انْتَهَى.

[بَابٌ جَامِعٌ]

(بَابٌ جَامِعٌ) (مَسْأَلَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِيهَا بَحْثٌ) كُنَّا فِي مَجْلِسٍ نَقْرَأُ فِيهِ قُرْآنًا وَإِلَى جَانِبِي قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ وَإِلَى جَانِبِهِ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ وَهُنَاكَ مَنْ فِيهِ فَضِيلَةٌ أَيْضًا فَقَرَأَ الْقَارِئُ {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: ٥٧] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَرْكَ تَوْفِيَةِ الْأُجُورِ ظُلْمٌ فَتَكُونُ التَّوْفِيَةُ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ {لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: ٥٧] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَرْكَ تَوْفِيَةِ الْأُجُورِ ظُلْمٌ فَتَكُونُ التَّوْفِيَةُ وَاجِبَةً قَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ قَدْ يُرِيدُ بِالظَّالِمِينَ الْكَافِرِينَ فَيَكُونُ عَائِدًا إلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ جَلَالُ الدِّينِ: مَا يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَحَدِ الْبُلَغَاءِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ قِسْمٌ مُسْتَقِلٌّ قَدْ أَخَذَ حُكْمَهُ فَأَسْكَتَ الْحَاضِرُونَ فَقُلْت لَهُ: لِمَ سَمَّى الْجَزَاءَ أَجْرًا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ رَشَّحَ ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَ تَرْكِهِ ظُلْمًا وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِأَجْرٍ وَلَا تَرْكِهِ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ بِطَاعَتِهِ شَيْئًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ النِّزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَصْمِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ إثَابَةَ الطَّائِعِ صِفَةُ كَمَالٍ وَضِدُّهَا نَقْصٌ بِالْعَقْلِ سَوَاءٌ وَعَدَ بِذَلِكَ أَمْ لَا.

فَالْخَصْمُ يَدَّعِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نُنْكِرُهُ وَنَقُولُ: الْعَقْلُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَلَا نَحْكُمُ بِأَنَّ ضِدَّهُ صِفَةُ نَقْصٍ بَلْ مَهْمَا فَعَلَ تَعَالَى مِنْ الْإِثَابَةِ وَعَدَمِهَا لَا يُنَافِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَالَهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَفَضَّلَ وَوَعَدَ بِإِثَابَةِ الطَّائِعِ وَزَادَ فِي الْفَضْلِ بِأَنْ سَمَّاهُ أَجْرًا تَأْكِيدًا لِثُبُوتِهِ وَتَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْأَجْرِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَمَلِ كَمَا قَالَ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: ٥٤] وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِيًا عَنْهُ تَعَالَى «إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي» وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ: حَقُّك وَاجِبٌ عَلَيَّ وَأَنَا ظَالِمٌ إنْ لَمْ أَفْعَلْ، وَالْمَقْصُودُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>