للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْحُكَمَاءِ وَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُتَشَرِّعِينَ.

أَمَّا الْحُكَمَاءُ فَلَهُمْ فِيهَا مَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ: أَشْهُرُهَا عِنْدَهُمْ مَذْهَبُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ أَنَّهَا يَجِبُ بَقَاؤُهَا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الْبَدَنَ، الثَّانِي مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَنَّهَا يَجِبُ فِنَاؤُهَا، وَالثَّالِثُ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كَانَتْ مُفَارِقَتُهَا لِلْبَدَنِ قَبْلَ تَصَوُّرِ الْمَعْقُولَاتِ وَتَجْرِيدِ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَكَمَّلَتْ بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ التَّصَوُّرَاتِ الْكُلِّيَّةِ وَالتَّصْدِيقَاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِي حَالَةِ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ فَإِنَّهَا تَبْقَى وَإِنْ فَارَقَتْ الْبَدَنَ.

وَهَذِهِ كُلُّهَا مَذَاهِبُ فَاسِدَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوَاعِدَ فَاسِدَةٍ، وَأَدِلَّتُهُمْ وَمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ، وَالْحَقُّ أَنَّ بَقَاءَهَا مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحِيلٍ سَوَاءٌ تَكَمَّلَتْ أَمْ لَمْ تَتَكَمَّلْ وَأَعْنِي بِالْإِمْكَانِ الْإِمْكَانَ الْعَقْلِيَّ.

وَأَمَّا الْمُشَرِّعُونَ فَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ كَمَا قُلْنَاهُ وَقَدْ دَلَّتْ الشَّرَائِعُ عَلَى وُقُوعِهِ وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الشَّرَائِعِ خِلَافًا فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ قَالَ فِي الْعَالِمِ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ الْعَقْلِيَّةُ إذَا انْضَمَّتْ إلَى أَقْوَالِ جُمْهُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ أَفَادَتْ الْجَزْمَ بِبَقَاءِ النَّفْسِ.

فَقَوْلُهُ: جُمْهُورُ الْأَنْبِيَاءِ يُوهِمُ عَدَمَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا الْإِيهَامُ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ وَلَا أَظُنُّهُ أَرَادَهُ وَفِي أَوَّلِ كَلَامِهِ أَنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى بَقَائِهَا.

فَهَذَا مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَاسْتَقَرَّ الشَّرَائِعُ وَالْكُتُبُ الْمَنْزِلَةُ وَآيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَكَاثِرَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا وَيُقْطَعُ بِالْمُرَادِ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ النُّفُوسِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ وَلَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا عَالِمٌ وَلَا عَامِّيُّ بَلْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ وَادَّعَوْا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِحَيَاةِ جَمِيعِ الْمَوْتَى.

وَنَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: ١٥٤]- الْآيَةَ إنَّ هَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْآيَةِ الرَّدَّ عَلَى الْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْبَعْثِ وَأَنَّ بِالْمَوْتِ يَفْنَى الْإِنْسَانُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ مِنْ إحْسَاسٍ وَنَحْوِهِ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّ حَيَاةَ الْمَوْتَى مُخْتَلِفَةٌ فَحَيَاةُ الشَّهِيدِ أَعْظَمُ وَحَيَاةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَيْسَ بِشَهِيدٍ دُونَهُ وَحَيَاةُ الْكَافِرِ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ دُونَهُ، وَالْكُلُّ مُشْتَرِكُونَ فِي الْحَيَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَبْلَى، وَالْأَرْوَاحُ كُلُّهَا بَاقِيَةٌ.

هَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>