للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنْ امْتَدَّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالتَّأْبِيدِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدَانِ أَحَدُهُمَا فِي الطَّرَفِ الْأَوَّلِ بِلَنْ وَالثَّانِي فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ بِالتَّأْبِيدِ. وَفِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} [الجمعة: ٦] فَجَعَلَ الشَّرْطَ أَمْرًا مُسْتَقْبَلًا قَدْ يَقَعُ الزَّعْمُ مِنْهُمْ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ. وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِتَمَنِّي الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ حُصُولُ الدَّارِ الْآخِرَةِ لَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا مُطَابَقَةً كَالْآيَةِ الْأُولَى فَجَاءَ الِانْتِفَاءُ لِلتَّمَنِّي الْمُسْتَقْبَلِ الَّتِي مَتَى وَقَعَ الزَّعْمُ عُلِمَ انْتِفَاءُ التَّمَنِّي، فَكَانَ التَّأْكِيدُ فِيهِ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ صُرِّحَ بِالتَّأْبِيدِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةِ " لَنْ " فَإِنْ قُلْت فَمِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ " لَنْ " وَ " لَا " وَلَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ وَغَايَةُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ " لَنْ " أَوْسَعُ أَوْ " لَا " أَوْسَعُ وَفِي أَنَّ " لَا " تَخْتَصُّ بِالْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، وَهَذَا الَّذِي قُلْته أَنْتَ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَبْلَغُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ. قُلْت وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَنْفُوهُ وَيُؤْخَذُ مِنْ اسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِهَا.

قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: ٢٤] {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: ٨٠] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: ١١١] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ١٢٠] {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: ٢٤] {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} [الإسراء: ٩٠] {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: ٥٧] {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: ١١١] {لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا - وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ} [الإسراء: ٢٢ - ٩٣] {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: ٢٠] {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة: ٣] {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: ٨٠] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. فَانْظُرْ مَوَارِدَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَقُوَّةَ تَحْقِيقِ النَّفْيِ فِي الْحَالِ فِيهَا، وَفِي بَعْضِهَا التَّأْبِيدُ لِإِرَادَةِ تَقْوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَفِي قَوْلِهِ (إذًا أَبَدًا) الْمَقْصُودُ تَحْقِيقُ النَّفْيِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى الْأَبَدِ إنْ تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ فَالتَّأْبِيدُ مِنْ ابْتِدَاءِ زَمَانِهِ إلَى الْأَبَدِ وَلِذَلِكَ احْتَرَزْت فِي أَوَّلِ كَلَامِي فَلَمْ أَقُلْ مِنْ الْآنَ وَأَمَّا " لَا " فَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠] لِأَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِلْمِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَلَا يَحْسُنُ هُنَا.

وَكَذَلِكَ {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: ١٢٣] لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِ النَّفْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَقَوْلُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ} [الكهف: ٦٠] أَيْ لَا أَبْرَحُ مُسَافِرًا وَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ السَّفَرِ فَلَيْسَ كَقَوْلِ أَخِي يُوسُفَ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ - وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: ٨٠ - ٧٦] لَمَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى الزَّمَانَ الْأَوَّلَ جَازَ " لَا " وَالْمُسْتَثْنَى فِي {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: ١١١] الْفِعْلُ فَكَانَ " لَنْ " مَعَ تَحْقِيقِ النَّفْيِ فِي أَوَّلِ الْأَزْمِنَةِ وَانْظُرْ كَيْفَ وَقَعَ التَّعَادُلُ بَيْنَ " لَنْ " وَ " لَا " اشْتَرَكَا فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَاخْتَصَّتْ " لَا " بِنَفْيِ الْحَالِ وَالْمَاضِي وَاخْتَصَّتْ

<<  <  ج: ص:  >  >>