للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَنْ بِقُوَّةِ النَّفْيِ مِنْ ابْتِدَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ جَاءَتْ فِي قَوْلِهِ {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قُوَّةُ نَفْيِ رُؤْيَتِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَجِئْ فِيهَا التَّأْبِيدُ فَلَا صَرِيحَ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَى النَّفْيِ فِي الْآخِرَةِ وَدَلَالَةُ " لَنْ " عَلَى النَّفْيِ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الِاسْتِقْبَالِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ " لَا " وَدَلَالَةُ " لَا " عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ " لَنْ " لِمَا فِي " لَا " مِنْ الْمَدِّ الْمُنَاسِبِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَلِذَلِكَ نَقُولُ " لَا " أَوْسَعُ " وَلَنْ " أَقْوَى وُسْعَةً لَا فِي الظَّرْفِ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَيَمُدُّهُ مَا قَبْلَهُ إلَى أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَالِ، وَفِي الْمَاضِي فَصَارَتْ لِجَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ؛ " وَلَنْ " لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي أَوَّلِهِ، فَظَاهِرُ " لَنْ " بَاقِيَةٌ وَالْمُعَادَلَةُ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ مِنْ حِكْمَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.

[الْفَهْمُ السَّدِيدُ مِنْ إنْزَالِ الْحَدِيدِ]

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي نَظَرْت يَوْمًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: ٢٥] وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، فَقِيلَ نَزَلَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدِ الْكِلْبَتَانِ وَالسِّنْدَانِ وَالْمِطْرَقَةِ وَالْمِيقَعَةِ وَالْإِبْرَةِ؛ وَالْمِيقَعَةُ خَشَبَةُ الْقَصَّارِ الَّتِي يَدُقُّ عَلَيْهَا، وَعَنْ الْحَسَنِ {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: ٢٥] خَلَقْنَاهُ، كَقَوْلِهِ {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر: ٦] وَذَلِكَ أَنَّ أَوَامِرَهُ تَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَقَضَايَاهُ وَأَحْكَامُهُ، فَاسْتَحْسَنْت هَذَا الْقَوْلَ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ عَنْ الْخَلْقِ وَالْعَلَّاقَةُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالْقَضَايَا وَالْأَحْكَامَ نَازِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِحَسَبِ تَسْمِيَةِ الْمَخْلُوقِ بِالْمُنْزَلِ لِذَلِكَ، لِأَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ الْقَضَايَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا، ثُمَّ فَكَّرْت فِي كَوْنِ الْقَضَاءِ وَالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ نَازِلَةً مِنْ السَّمَاءِ فَوَقَعَ لِي أَنَّهَا جِهَةُ الْعُلُوِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ وَمَقْضِيٌّ عَلَيْهِ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ.

وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ مَحَلُّهُ التَّسَافُلُ وَالذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَالْأَوَامِرُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ مَحَلُّهَا الْعُلُوُّ وَالِاسْتِعْلَاءُ وَالْقَهْرُ، وَذَلِكَ عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ، وَالْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ يُنَاسِبُهُ الْعُلُوُّ الْحِسِّيُّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأَوَامِرُ تَأْتِي مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ؛ وَالسَّمَاءُ مُحِيطَةٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ فَجُعِلَتْ الْأَوَامِرُ مِنْهَا، وَالْمَأْمُورُ فِي الْحَضِيضِ مِنْهَا لِيَرَى نَفْسَهُ أَبَدًا سَافِلًا رُتْبَةً وَصُورَةً تَحْتَ الْأَوَامِرِ لِيَنْقَادَ إلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى لَا تَتَكَبَّرَ نَفْسُهُ فَيَهْلَكُ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي تَخْصِيصِ السَّمَاءِ بِمَجِيءِ الْأَوَامِرِ مِنْهَا، وَكَانَ فِي الْإِمْكَانِ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَعَلَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَسْكَنَهَا مَلَائِكَتَهُ الَّذِينَ هُمْ سُفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَحَمَلَةُ أَمْرِهِ وَأَحْكَامِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>