للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا فَإِنَّهُ كَلَامٌ نَفِيسٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَلَامِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، وَبَيْنَ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَبِذَلِكَ تَفْهَمُ مَحَلَّ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَصْحَابِ، وَكَلَامِ الْإِمَامِ.

وَبِهِ يَتَبَيَّنُ لَك إشْكَالُ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ فَإِنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا صَدَرَ الْبَيْعَانِ عَلَى صُورَةِ بَيْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَا قَطْعًا عَلِمَا، أَوْ جَهِلَا، وَهُوَ قَدْ قَطَعَ بِالصِّحَّةِ إذَا عَلِمَا فَسَادَ الْأَوَّلِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ إذَا صَدَرَ مُبْتَدَأً، وَلَكِنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَصَحُّ مِنْهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ: إنْ اتَّفَقَ جَرَيَانُهُ خَلِيًّا عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ صَحِيحٌ مَجِيدٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا صَدَرَ مُسْتَقِلًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ كَمَسْأَلَةِ الرَّهْنِ وَلِهَذَا أَعَادَ الْإِمَامُ الْمَسْأَلَةَ فِي الرَّهْنِ، وَحَكَمَ بِالصِّحَّةِ فِيهَا تَبَعًا لِشَيْخِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَهَا بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ صُدُورَ الْبَيْعِ الثَّانِي عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ الْإِمَامُ، وَهُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَصْحَابِ بَلْ أَفَادَ الْإِمَامُ مَسْأَلَةً أُخْرَى لَيْسَتْ فِي كَلَامِهِمْ نَعَمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ صَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ رَهْنًا، وَكَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا، وَأَتَى بِالرَّهْنِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْوَفَاءِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَصِحُّ كَمَنْ أَدَّى إلَى إنْسَانٍ أَلْفًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْأَدَاءُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَالْمُؤَدِّي مُسْتَرِدٌّ.

قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالْحَقُّ مَعَ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ، وَكَيْف يَصِحُّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي، وَجَمِيعُ الْعُقُودِ، وَالتَّصَرُّفَاتِ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهَا إلَى مَدْلُولِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِظَنِّ الْعَاقِدِ، وَإِذَا كُنَّا نُصَحِّحُ بَيْعَ مَالٍ نَظُنُّهُ لِغَيْرِهِ فَتَبَيَّنَ لِنَفْسِهِ مَعَ ظَنِّ الْفَسَادِ فَلَأَنْ نُصَحِّحَ هَذَا مَعَ اعْتِقَادِ الصِّحَّةِ أَوْلَى.

وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ ظَنَّ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ فَلَا يُعْذَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَنْ أَدَّى إلَى شَخْصٍ دَرَاهِمَ يَظُنُّ أَنَّهَا دَيْنٌ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ خِلَافَهُ يَسْتَرِدُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا مُجَرَّدُ الدَّفْعِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَنْ دَيْنٍ، وَهُنَا لَفْظَةُ الْمِلْكِ، وَلَوْ أَعْتَقَ ظَانًّا وُجُوبَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ، وَنَحْوِهَا، أَوْ طَلَّقَ ظَانًّا وُجُوبَهُ عَنْ أَمْرٍ لِسَبَبِ إيلَاءٍ، وَنَحْوِهِ، أَوْ وَهَبَ ظَانًّا وُجُوبَهَا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُقَالَ: لَا تَصِحُّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ، وَالتَّوَقُّفُ فِي ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ إذَا قَالَ: اشْتَرُوا بِثُلُثِي عَبْدًا، وَاعْتِقُوهُ، فَامْتَثَلَ الْوَارِثُ ثُمَّ بَانَ دَيْنًا، فَإِنْ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ دَفَعَ عَنْهُ، وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ.

فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ صَحَّحَ عَبْدُ الْغَفَّارِ الْقَزْوِينِيُّ فِي حَاوِيهِ عَدَمَ الصِّحَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالْكِتَابَةِ. قُلْت: لَمَّا رَأَى الرَّافِعِيُّ نَقَلَ عَنْ الْبَغَوِيِّ، وَغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ عَدَمَ الصِّحَّةِ، وَفِي الْكِتَابَةِ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِالْإِبْرَاءِ أَنَّ الْمَذْهَبَ بُطْلَانُهُ، وَلَمْ يُحَقِّقْ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الرَّهْنِ أَطْلَقَ، وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>