للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وجاء الإسلام وله كتاب كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان حرص المسلمين على حفظ هذا الكتاب من أن يغير، أو يبدل فيه حرصا مصحوبا بالغيرة والرغبة في العمل، ولقد كان هذا الحرص وتلك الغيرة، وما صحبهما من رغبة من الدوافع التي دفعت المسلمين، والعرب إلى خلق طائفة من الدراسات اللغوية، كالنحو والصرف والمعجم والتجويد وهلم جرا، جعلت العرب يلمعون في أفق العصور الوسطى، ويبدون بحق في مظهر القادة الفكريين في العالم، فهل خلص العرب الدراسات اللغوية من شوائب التفكير غير اللغوي بصفة عامة، والتفكير الفلسفي بصفة خاصة؟ وهل استطاعوا أن يجعلوا للمنهج اللغوي استقلاله عن مناهج العلوم الأخرى؟ ذلك سؤال سنحاول الإجابة عليه في الصفحات التالية:

لقد عاصرت نشأة الدراسات اللغوية العربية نشاطا علميا ضخما في البلاد الإسلامية، شمل التدوين والسفر لطلب الروايات، والترجمة من اللغات الأجنبية ترجمة تناولت فروع المعرفة، التي تخدم الثقافة العربية، فترجموا الفلك والرياضات من الهندية، كما ترجموا عن البهلوية والسريانية واليونانية، ونشأت المدارس التي احترفت الترجمة احترافا في حران والرها، وغيرهما من بلاد الخلافة؛ فأصبحت العقلية العربية لأول مرة في احتكاك مباشر بالأمم، والديانات الأخرى ذات الثقافات المكتوبة١، وكان لا بد والحالة هذه أن يتتلمذ العرب على هذه الأمم، وأن تتأثر عقولهم بعقولها، وأن ينهجوا في نشاطهم العلمي نهجا تظهر فيه سمات اطلاعهم على تراث هذه الأمم.

ولعل العرب لم يترجموا عن أمة كما ترجموا عن اليونانية، إما مباشرة أو عن طريق السريانية١، ومن المعلوم أن أرسطو كان له نصيب الأسد في الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، وأن منطقه أصبح شهيرا في البلاد الإسلامية في العصر العباسي.

ولم يكن الاحتكاك بين العرب، وبين العقلية الإغريقية في ذلك العصر مقصورا على الترجمة فحسب، بل إن الصلة بين علماء المسلمين، وبين رجال الدين من المسيحيين ظلت قائمة وثيقة في هذا العهد، كما كانت من قبل، وكما استمرت من بعد كذلك، وقد


١ Read O'Learv, How Greek Science Passed to the Arabs.
pp. ١٥٥-٧٥.

<<  <   >  >>