للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالمصلحة العملية، هي وحدها الحكم في مثل هذه الحالات وهي التي تحكم لهذه اللغة أو لتلك. وقد تبقى اللغتان متجاورتين زمنا طويلا، وهما في حالة تعادل. وللموقف السياسي أهميته الكبرى كذلك، فإن بعض الشعوب يتمسك بهذه اللغة دون تلك ويرخي لها عمدا عنان التفشي، مدفوعة بعاطفة وطنية، أو محاولة نيل استقلالها، أو نفورا من دولة مجاورة لها. وهذا مشاهد في الأقطار البلقانية، وفي أيرلندة، حيث تتجه حركة وطنية إلى إحياء اللغة القديمة للبلاد، تخلصا من لغة أعدائهم الإنجليز. واللغة الفرنسية لم تنتشر يوما في "الألزاس"، بقدر ما كانت تتكلم زمن انضمام هذا الإقليم للإمبرطورية الألمانية، أما حينما كانت مقاطعة الألزاس جزءا من فرنسا، ولم تكن مضطرة إلى أن تتخذ لغة بعينها، فلم يكن لديها باعث قوي يحملها على ترك لهجاتها الجرمانية المحلية.

وإلى جانب العوامل الاقتصادية والسياسية، هناك عامل عاطفي له أثره في المحافظة على سلامة الكثير من اللغات وبقائها، وهو عامل "الهيبة"١. وكثيرا ما يكون هذا العامل مستمدا من القيمة الذاتية للغة، فاليونانية مثلا، كانت تمثل ثقافة من أعرق الثقافات البشرية، ولذلك لم تستطع اللغة اللاتينية التغلب عليها، كما لم تستطع بعد ذلك اللغة التركية، مع أنها كانت لغة الفاتحين سياسيا وحربيا. وكذلك لم يتمكن الاحتلال التركي للشرق، خلال قرون عديدة، من القضاء على اللغة العربية، وإحلال التركية محلها؛ لأن التركية ليست بأية حال من الأحوال، من لغات الحضارات الكبيرة، بخلاف اليونانية والعربية.


١ انظر كذلك: اللغة لفندريس ٣٥٠.

<<  <   >  >>