للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، ولم يكن أحد من الحجاب فيما سلف يتعرّض للحكم في شيء من الأمور الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون، وإنما يرجع ذلك إلى قضاة الشرع، ولقد عهدنا دائما أن الواحد من الكتاب أو الضمان ونحوهم، يفرّ من باب الحاجب ويصير إلى باب أحد القضاة ويستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد بعد ذلك في أخذه من باب القاضي، وكان فيهم من يقيم الأشهر والأعوام في ترسيم القاضي حماية له من أيدي الحجاب، ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم اسما لعدّة جماعة من الأمراء، ينتصبون للحكم بين الناس لا لغرض إلّا لتضمين أبوابهم بمال مقرّر في كلّ يوم على رأس نوبة النقباء، وفيهم غيروا حد ليس لهم على الأمرة إقطاع، وإنما يرتزقون من مظالم العباد، وصار الحاجب اليوم يحكم في كلّ جليل وحقير من الناس، سواء كان الحكم شرعيا أو سياسيا بزعمهم، وإن تعرّض قاض من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب، لم يمكّن من ذلك، ونقيب الحاجب اليوم مع رذالة الحاجب وسفالته، وتظاهره من المنكر بما لم يكن يعهد مثله، يتظاهر به أطراف السوقة، فإنه يأخذ الغريم من باب القاضي ويتحكم فيه من الضرب وأخذ المال بما يختار، فلا ينكر ذلك أحد البتة، وكانت أحكام الحجاب أوّلا يقال لها حكم السياسة، وهي لفظة شيطانية لا يعرف أكثر أهل زمننا اليوم أصلها، ويتماهلون في التلفظ بها ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية، وإنما هو من حكم السياسة، ويحسبونه هينا، وهو عند الله عظيم، وسأبين معنى ذلك، وهو فصل عزيز.

[ذكر أحكام السياسة]

اعلم أن الناس في زمنا، بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام، يرون أن الأحكام على قسمين: حكم الشرع، وحكم السياسة. ولهذه الجملة شرح، فالشريعة هي ما شرّع الله تعالى من الدين وأمر به، كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البرّ، واشتقّ الشرع من شاطىء البحر، وذلك أن الموضع الذي على شاطىء البحر تشرع فيه الدواب، وتسميه العرب الشريعة، فيقولون للإبل إذا وردت شريعة الماء وشربت: قد شرع فلان إبله، وشرّعها، بتشديد الراء إذا أوردها شريعة لماء، والشريعة والشراع والشرعة، المواضع التي ينحدر الماء فيها. ويقال: شرّع الدين يشرّعه شرعا بمعنى سنّه. قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً

[الشورى/ ١٣] ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به. وهو سائس من قوم ساسة وسوس، وسوّسه القوم. جعلوه يسوسهم، والسوس الطبع والخلق، فيقال: الفصاحة من سوسه والكرم من سوسه، أي من طبعه. فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال.

<<  <  ج: ص:  >  >>