للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الملوك الترك بمصر، وتنعمت في ملاذّ ما وصل سواها لمثلها، ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها، وصارت خونده بعد ابنه توكاي وأكبر نسائه، حتى من ابنة الأمير تنكز. وحج بها القاضي كريم الدين واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال، وأخذ لها الأبقار الحلابة، فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطريّ، وعمل الجبن، وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء، وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن في كل يوم، وهما أخس ما يؤكل، فما عساه يكون بعد ذلك. وكان القاضي كريم الدين، والأمير مجلس، وعدّة من الأمراء يترجلون عند النزول ويمشون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان، ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة إلى السلطان لا بدّ أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر، فلما مات السلطان الملك النصار استمرّت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوّال سنة تسع وأربعين وسبعمائة، أيام الوباء، عن ألف جارية، وثمانين خادما خصيا، وأموال كثيرة جدّا، وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف، جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قرّاء، ووقفت على ذلك وقفا، وجعلت من جملته خبزا يفرّق على الفقراء، ودفنت بهذه الخانقاه، وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا.

[خانقاه يونس]

هذه الخانقاه من جملة ميدان القبق بالقرب من قبة النصر خارج باب النصر، أدركت موضعها وبه عواميد تعرف بعواميد السباق، وهي أوّل مكان بني هناك، أنشأها الأمير يونس النوروزيّ الدوادار كان من مماليك الأمير سيف الدين جرجي الإدريسيّ، أحد الأمراء الناصرية، وأحد عتقائه، فترقى في الخدم من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن صار من جملة الطائفة اليلبغاوية، فلما قتل الأمير يلبغا الخاصكيّ خدم بعده الأمير استدمر الناصريّ الأتابك، وصار من جملة دواداريته، وما زال يتنقل في الخدم إلى أن قام الأمير برقوق بعد قتل الملك الأشرف شعبان، فكان ممن أعانه وقاتل معه، فرعى له ذلك ورقّاه إلى أن جعله أمير مائة مقدّم ألف، وجعله دواداره لما تسلطن، فسلك في رياسته طريقة جليلة، ولزم حالة جميلة من كثر الصيام والصلاة، وإقامة الناموس الملوكيّ، وشدّة المهابة، والإعراض عن اللعب، ومداومة العبوس، وطول الجلوس، وقوّة البطش لسرعة غضبه، ومحبة الفقراء، وحضور السماع والشغف به، وإكرام الفقهاء وأهل العلم.

وأنشأ بالقاهرة ربعا وقيسارية بخط البندقانيين، وتربة خارج باب الوزير تحت القلعة، وأنشأ بظاهر دمشق مدرسة بالشرف الأعلى، وأنشأ خانا عظيما خارج مدينة غزة، وجعل بجانب هذه الخانقاه مكتبا يقرأ فيه أيتام المسلمين كتاب الله تعالى، وبنى بها صهريجا ينقل

<<  <  ج: ص:  >  >>