للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النّفس راحل، واستعاده وروض الفكر ماحل، فجاده لا جرم أنه بما حوى من حدق النّوى، وروى من طرق الهوى، وبكى الربيع المحيل، وشكى من صابح الرّحيل، هيّج لواعج الأشواق وأثارها، وحرّك للنفس حوارها، فحنّت، واستوهبت العين مدارها فما ضنّت. فجاشت لوعة أسكنت، وتلاشت سلوة عنت، وكفّ دمع كفّ، وثقل عذل حفّ، واشتدّ الحنين، وامتدّ الأنين، وعلا النحيب، وعرا الوجيب، والتقى الصّبّ والحين، وهدى المحب قدر ما جناه البين، وطالما أعمل في احتمال المشاق عزيمه، وشدّ لاجتياب الآفاق حيازيمه: [المنسرح]

وادع مثوى المقام معتزما ... فلا «١» يرى للغرام ملتزما

وأزمع البين «٢» عن أحبّته ... والبين عن داره التي رئما

وما درى أنه بعزمته ... قد «٣» أشعل البين في الحشا ضرما

وهل جرى ذاك في تصوّره؟ ... فربما أحدث الهوى لمما

إلهي، ألا نوى مشيئته «٤» ... شملا من العيش كان منتظما؟

وعاذل قال لي يعنّتني ... لا تبد فيما فعلته ندما

ما حيلة في يدي فأعملها ... عدل من الله كلّ ما حكما

أما أنّ القلب لو فهم حقيقة البين قبل وقوعه، وعلم قدر ما يشبّ من الرّوع في روعه، لبالغ في اجتنابه، واعتقد المعفي عنه من قبيل المعتنى به، ولحا الله الأطماع، فإنها تستدرج المرء وتغرّه، وتغريه بما يسرّه، ما زالت تقتل في الغارب والذّروة، وتخيل بالترغيب والثّروة، حتى أنأت عن الأحباب والحبايب، ورمت بالغريب أقصى المغارب. فيا لوحشة ألوت بإيناسه، وبالغربة أحلّت في غير وطنه وناسه، ويا عجبا للأيام وإساءتها، وقرب مسرّتها عن مساءتها، كأنها لم تتحف بوصال، ولم تسعف باتصال، ولم تمتّع بشباب، ولم تفتح لقضاء أوطار النفس كل باب: [الخفيف]

عجبا للزمان عقّ وعاقا ... وعدمنا مسرّة ووفاقا

أين أيامه وأين ليال ... كلآل تلألؤأ واتّساقا؟

كم نعمنا بظلّها فكأنّا ... مرقها للصّبا علينا رماقا