للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أوليته: ظهر بالمغرب أبوه الأمير عبد الحق، وقد اضطربت دولة الموحّدين، والتأث أمرهم، ومرجت عرب رياح؛ لعجز الدولة عن كفّ عدوانهم، فخرج الأمير عبد الحق في بحبوحة قومه من الصحراء، ودعا إلى نفسه، واستخلص الملك بسيفه، عام عشرة وستمائة، وكان على ما يكون عليه مثله، ممن جعله الله جرثومة ملك وخدم دولة، من الصّدق والدّهاء والشجاعة. ورأى في نومه كأنّ شعلا أربع من نار، خرجن منه، فعلون في جوّ المغرب، ثم احتوين على جميع أقطاره، فكان تأويلها تملّك بنيه الأربعة بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء. وكان له من الولد إدريس، وعثمان، وعبد الله، ومحمد، وأبو يحيى، وأبو يوسف، ويعقوب هذا. ولمّا هلك هو وابنه إدريس في وقيعة رياح، ولي أمره عثمان ولده، ثم ولي بعده أخوه محمد، ثم ولي بعده أبو يحيى أخوهما. وفي أيامه اتّسق الملك، وضخم الأمر، وافتتحت البلاد. ولمّا هلك حتف أنفه بفاس في رجب من عام ستة وخمسين وستمائة، قام بالملك أخوه يعقوب المترجم به، وأرّث الملك بنيه.

حاله: كان ديّنا فاضلا حييّا، جوادا سمحا، شجاعا، محبّا في الصالحين، منقادا إلى الخير، حريصا على الجهاد. أجاز ولده في أوائل عام اثنين وسبعين وستمائة إلى الأندلس، ثم عبر بنفسه في سرار صفر من العام بعده، فاحتلّ بظاهر إشبيلية، وكسر جيش الرّوم المنعقد على زعيمهم المسمّى ذنونه، بظاهر إستجة في ربيع الآخر من العام. ثم عبر ثانيا، مغتنما ما نشأ بين الروم من الفرقة، فغزا مدينة قرطبة، وصار أمر العدو في أطواق الفرنتيرة، بحيث لا يوجد في بطن القتيل منها إلّا العشب أزلا ومسغبة، لانتشار الغارات، وانتساف الأقوات، وحديث الفتنة.

وسببها ما كان من تصيّر مالقة إليه، من أيدي المنتزين عليها من بني إشقيلولة، ثم عودتها إلى سلطان الأندلس، من أيدي رجاله، شيوخ بني محلّى، ثم تدارك الله المسلمين بصلاح ذات البين، واحتلّ بظاهر غرناطة، في بعض هذه الغزوات، فنزل بقرية إسقطمر من مرجها، واحتفل السلطان، رحمه الله، في برّه، وأجزل نزله، وتوجيه ولده إليه. وذكر سيرته شاعرهم أبو فارس عزّوز في أرجوزته، فقال:

[الرجز]

سيرة يعقوب بن عبد الحقّ ... قد حاز فيها قصبات السّبق

بغيتان، يقرأ الكتاب ... وتذكّر العلوم والآداب

يقوم للكتاب ثلث الليل ... وما له عن ورده من سبيل

حتى إذا الصباح لاح وارتفع ... قام وصلّى للإله وركع

وضجّ بالتّسبيح والتّقديس ... حتى يتمّ الحزب في التّغليس