للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[ماهية التحقيق الصحفي]

لقد رأينا أن الجاحظ يعتبر -في نظر المؤرخين- صحفيا؛ لأنه أديب موسوعي العلم والمعرفة، واقعي الأسلوب، سلس العبارة، يرفع الكلفة بينه وبين القارئ، ويعبر عن خصائص عصره وسمات بيئته. فهو يمتاز بأنه لم يترك موضوعا عاما إلا وكتب فيه رسالة أو كتابا. "ومن يرجع إلى رسائله وكتبه يجده قد ألف في النبات وفي الشجر وفي الحيوان وفي الإنسان وفي الجد والهزل، وفي الترك والسودان، وفي المعلمين والقيان، وفي الجواري والغلمان. وفي العشق والنساء، وفي السنية وفي الشيعة والعباسية والزيدية والرافضة، وفي حيل لصوص النهار وحيل سراق الليل وفي البخلاء واحتجاج الأشحاء، وفي هذا ما يدل على أن الجاحظ خطا بالكتابة الفنية عند العرب خطوة جديدة نحو التعبير عن جميع الموضوعات في خلابة وبيان عذب. كان يفهم الكتابة الأدبية على أنها معان تنسق في موضوع خاص مما يتصل بالطبيعة أو الإنسان، وكان لذلك صبغة في كتابته، فإنها كانت ذات موضوع قبل أن تكون ذات أسلوب، وليس معنى ذلك أنه كان يهمل ألفاظه وتراكيبه، بل لقد كان يعنى بها عناية شديدة"١.

لقد كان الجاحظ لسان عصره، لا يتستر ولا يتخفى، يعبر عن الواقع بلهجة عادية بالنسبة لأهل زمانه، يحكي ويصور ويمثل تمثيلا دقيقا ينبض بالحيوية، وقد نجح في نقل صور الحياة في بيئته العباسية عبر القرون بكل صدق وأمانة. لقد كان مصورا عظيما، ينقل المشاهد بحذافيرها وبدقائقها وتفاصيلها. وفنه هذا ينم عن قوة ملاحظة فائقة، يحسده عليها كل صحفي حديث. لقد تفوق الجاحظ في فن الإبانة، وأتقن التصوير والتجسيم، مهما كان الموضوع الذي يتناوله، إنه رجل شديد الانغماس في المجتمع، يهتم بالمسائل العامة -كما يقول المحدثون- وهو غزير الإنتاج إلى درجة تلفت الأنظار، وهو صورة دقيقة لما يحيط به من تلك البيئة العباسية من دين وسياسة وثقافة وأدب وعادات وتقاليد اجتماعية راقية غير راقية.


١ دكتور شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص١٦٠، ١٦١.

<<  <   >  >>