للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التي يكتسبها المتقدمون في السن تجعل إدراكهم للطبيعة البشرية أكثر دقة "كما يقول المحافظون", أو لأنهم حققوا أهدافهم في الحياة وأصبحوا أكثر أمنًا واستقرارًا عن ذي قبل، ولهذا يرغبون في المحافظة على الأوضاع القائمة "كما يقول المتحررون"، إلّا أننا نضيف سببًا ثالثًا في ضوء الأدوار الاجتماعية، فالتزام الشباب بقيم التطور والتغيير في المجتمع سرعان ما يتضاءل مع زيادة مسئولياته الاجتماعية, مع انتقاله إلى المراحل التالية، وخاصةً مسئولياته داخل الأسرة؛ فالدفاع عن حقوق "الكادحين" والمقهورين -وهو شعار اليساريين في الأغلب- تخبو جذوته تدريجيًّا, ويفتر الحماس له, ويحل محله القلق على مستقبل الأسرة.

ويكشف التحليل الدقيق لتغير الاتجاهات السياسية مع التقدم في العمر عن أن سيطرة الاتجاهات المحافظة لدى المسنين يرجع في جوهره إلى المستوى التعليمي؛ فالأشخاص الأرقى تعليمًا يتجهون إلى قطب التحرر، بينما يتجه ذوو التعليم المنخفض إلى قطب المحافظة, وبالطبع تلعب الظروف الثقافية التي يعيش فيها كلُّ جيل دجورها في تكوين هذه الاتجاهات؛ فكل جيل يتعرض في نفس الوقت ونفس العمر لأنماطٍ مشتركة من التعليم والحياة الاجتماعية والظروف الاقتصادية والحروب والأزمات السياسية، ولهذا فإن درجة التحرر أو المحافظة في كل جيل جديد تعكس هذه الخبرات المشتركة, وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نحدد ونحن في نهاية القرن العشرين أربعة أجيال مختلفة في مصر المعاصرة١ باعتبار ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ النقطة المرجعية في هذا الصدد، هذه الأجيال الأربعة هي:

١- جيل ما قبل صورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢, وهم أولئك الذين كانوا في طور الرشد الأوسط أو مطلع الشيخوخة عند قيام هذه الثورة, وهم الآن في السبعينات أو الثمانينات من العمر، وربما بلغ بعضهم طور أرذل العمر الذي سنتناوله في الفصل القادم, والطابع الغالب على هذا الجيل هو المحافظة.

٢- جيل صناع ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢, وهم الذين كانوا في شبابهم أو رشدهم المبكر عند قيام هذه الثورة, وهم الآن في طور الشيخوخة, وهو جيل تحولت اتجاهاته من التحرر إلى المحافظة, ويتضح ذلك خاصةً من تحليل أنماط السلوك السياسي لبعض قادة العصر "الثوري" وأقطابه في الوقت الحاضر.


١ هذا التحليل مستمَد من دراسة مطولة لأحد مؤلفي هذا الكتاب في المرجع الآتي: فؤاد أبو حطب: علم النفس في مصر, دراسة في الشخصية القومية للعلم والمجتمع "تحت الطبع".

<<  <   >  >>