للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[قبح جميل]

دخل أحمد بن أيمن "كاتب ابن طولون" البصرة، فصنع له مسلم بن عمران التاجر المتأدب صنيعًا دعا إليه جماعة من وجوه التجار وأعيان الأدباء، فجاء ابنا صاحب الدعوة وهما غلامان، فوقفا بين يدي أبيهما، وجعل ابن أيمن يطيل النظر إليهما، ويعجب من حسنهما وبَزَّتهما ورُوائهما، حتى كأنما أفرغا في الجمال وزينته إفراغًا، أو كأنما جاءا من شمس وقمر لا من أبوين من الناس، أو هما نبتا في مثل تهاويل الزهر من زينته التي تُبدعها الشمس، ويصقلها الفجر، ويتندى بها روح الماء العذب؛ وكان لا يصرف نظره عنهما إلا رجع به النظر، كأن جمالهما لا ينتهي فيما ينتهي الإعجاب به.

وجعل أبوهما يسارقه النظر مسارقة، ويبدو كالمتشاغل عنه، ليدع له أن يتوسم ويتأمل ما شاء، وأن يملأ عينيه مما أعجبه من لؤلؤتيه ومخايلهما؛ بيد أن الحسن الفاتن يأبى دائمًا إلا أن يسمع من ناظره كلمة الإعجاب به، حتى لينطق المرء بهذه الكلمة أحيانًا، وكأنها مأخوذة من لسانه أخذًا، وحتى ليحس أن غريزة في داخله كلّمها الحُسن من كلامه فردت عليه من كلامها.

قال ابن أيمن: سبحان الله؛ ما رأيت كاليوم قط دميتين لا تفتح الأعين على أجمل منهما؛ ولو نزلا من السماء وألبستْهما الملائكة ثيابًا من الجنة، ما حسبت أن تصنع الملائكة أظرف ولا أحسن مما صنعت أمهما.

فالتفت إليه مسلم وقال: أحب أن تعوِّذهما. فمد الرجل يده ومسح عليهما، وعوَّذهما بالحديث المأثور، ودعا لهما، ثم قال: ما أراك إلا استجدت الأم فحسُن نسلك، وجاء كاللؤلؤ يشبه بعضه بعضًا، صغاره من كباره؛ وما عليك ألا تكون قد تزوجت ابنة قيصر فأولدتها هذين، وأخرجتهما هي لك في صيغتها الملوكية١ من


١ تجيء هذه الكلمة في كتب الأدب والتاريخ على غير قاعدة النسب، وهو الأفصح في رأينا، ومن ذلك تسمية الإمام ابن جني كتابه: "التصريف الملوكي".

<<  <  ج: ص:  >  >>