للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بنته الصغيرة "١":

فرغ أبو يحيى مالك بن دينار، زاهد البصرة وعالمها، من كتابة المصحف؛ وكان يكتب المصاحف للناس، ويعيش مما يأخذ من أجرة كتابته؛ تعففًا أن يطعم إلا من كسب يده, ثم خرج من داره وجهه المسجد، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائمًا، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافلته، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى أُسْطُوانته١ التي يستند إليها، وتحلَّق الناس حوله جموعًا خلف جموع خلف جموع، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجد على رحبه. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقة طويلة، والناس كأن عليهم الطير مما سكنوا لهيبته، ومما عجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندَّت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطَّلع على أرواحهم فجر رطب من سحر ذلك الندى.

وبدر شاب حَدَث فسأله: ما بكاء الشيخ؟ وكان قريبًا يجلس من الإمام في سَمْت بصره٢ فتأمله الشيخ طويلًا يقلب فيه الطرْف كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِد لسانه أو أخذته من نفسه حال، فما يثبت شيئًا مما يرى.

وازداد الناس عجبًا؛ فما جربوا على الشيخ من قبلها حصرًا ولا عِيًّا، ولا قطعه سؤال قط، ولا تخلف عن جواب؛ وقالوا: إن له لشأنًا، وما بد أن تكون من وراء حُبْسَته شعاب في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج؛ فما أسرع ما يلتقي السيل، فيجتمع، فيصوب إلى مجراه، فيتقاذف.

وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيت رؤيا فتبسمت لها؛ أما الذكرى، فهل تعلمون أن هذا المسجد الذي يَفْهَق بهذا الحشد


١ كان العلماء والرواة يجلسون إلى أساطين المسجد، وهي أعمدته، كما كان بالأزهر إلى عهد قريب.
٢ أي: أمامه في الخط الذي يمتد فيه البصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>