للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الانتحار * "١"

حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يومًا في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي وجماعة, أقبل فتى فجلس قريبا منا، وكان تلقاء وجهي، لا أمد نظري إلى انطلق في سمته ووقف عليه، وكنا نتحدث فرأيته يتسمع إلى حديثنا؛ فلما تكلم سعيد -وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه النملة الصخابة- رأيت الفتى يتزحف قليلا قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا.

وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي١ أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب٢ مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط.

قال مجاهد:" هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له؛ أخبرني أن رجلا جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته، فقال الرجل: أيكما الشعبي؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه!

قال المسيب: وضحكنا جميعا، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزنا وهما، وكأنه لا يتسمع إليها ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل


* انظر سبب إنشائه هذه المقالات الست في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".
١ هو الإمام العظيم "عامر بن شراحيل الشعبي" توفي سنة ١٠٣ للهجرة أو حولها. عن بعض وثمانين سنة، وكان في عصره أحد العلماء الأربعة في الإسلام: سعيد بن المسيب في المدينة "ذكرناه في قصة زواج"، الحسن البصري في البصرة "ذكرناه في قصة بنته الصغيرة"، ومكحول في الشام، والشعبي هذا في الكوفة، وكان يشبه في زمانه ابن عباس في زمانه.
٢ الحب "بكسر الحاء": هو الزبر، يستقطر الماء من أسفله فيخرج صافيا، ويقال لرشحه: قطر حب.

<<  <  ج: ص:  >  >>