للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدرني وتأله، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غي وتمرد وسفاهة، وأرسلها إلى مقتولة يردها علي.

بدرني وتأله كأنما يقول: إن له نصف الأمر ولي النصف: أنا أحييت وهو أمات!

بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة! قال الشعبي: وإنما تحرم الجنة على من يقتل نفسه، إذ ينقلب إلى الله وعلى روحه جناية يده ما تفارقها إلى الأبد, فهو هناك جيفة من الجيف مسمومة أبدًا, أو مخنوقة أبدًا، أو مذبوحة أبدًا، أو مهشمة أبدًا يقول الله له: أنت بدرتني بنفسك، وجريت معي في القدر مجرى واحدًا، فستخلد نفسك في الصورة التي هي من عملك، وما قتلت إلا حسناتك.

قال الشعبي: ولو عرف قاتل نفسه أنه سيصنع من نفسه جيفة أبدية، فمن ذا الذي يعرف أنه إذا فعل كذا وكذا تحول حمارًا وبقي حمارًا، فيرضى أن يتحول ويسرع ليتحول؟

من ذلك نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة ذلك الرجل الذي قتل نفسه، كما ينظر إلى ذبابة توجهت بالسب إلى الشمس والكواكب والأفلاك كلها، ثم جاءته تقول له: اشهد لي.

قال الشيخ: ومم يقتل الإنسان نفسه؟ أما أن الموت آت لا ريب فيه ولا مقصر لحي عنه، وهو الخيبة الكبرى تلقى على هذه الحياة؛ فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الحياة؟

إن المرء لا يقتل نفسه من نجاح بل من خيبة، فإن كانت الخيبة من مال فهي الفقر أو الحاجة، وإن كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال، وإن كانت من عزة فهي الذل أو البؤس، وإن كانت مما سوى ذلك -كالنساء وغيرهن- فهي العجز عن الشهوة أو التخيل الفاسد، وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو إرادة، وإلا فالفقر والحاجة والمرض والاختلال والذل والبؤس، والعجز عن الشهوة وفساد التخيل، كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها. ويا عجبا! إن العميان هم بالطبيعة أكثر الناس ضحكا وابتسامًا وعبثًا وسخرية، أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك؟

<<  <  ج: ص:  >  >>