للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الانتحار "٦" تتمة:

قال المسيب بن رافع: وانفض مجلس الشيخ، ودرجت بعده أعوام في عدة الشهور من حمل المرأة، بلغت فيها أمور الناس مبلغها من خير الدنيا وشرها، مما أعرف وما لا أعرف؛ ودخلت البصرة أنا ومجاهد الأزدي، نسمع الحسن١ ونأخذ عنه؛ فإنا لسائران يوما في سكة بني سمرة، إذ وافقنا الفتى صاحب النصرانية مقبلا علينا، وكنا فقدناه تلك المدة، فأسرع إليه مجاهد فالتزمه وقال: مرحبا بذي نسب إلى القلب. وسلمت بعده وعانقته، ثم أقبلنا نسأله، فقلت له: ما كان آخر أولك؟ قال مجاهد: بل ما كان آخر أولها هي؟

فضحك الرجل وقال: النصرانية تعني؟ قال: آخرها من أولها كهذا مني؛ وأومأ إلى ظله في الأرض ممدودًا مشبوحا مختلطا غير متميز؛ كأنه ثوب منشور ليس فيه لابسه، وكنا في الساعة التي يصير فيها ظل كل شيء مثليه فهو مزج المسخ بالمسخ.

قال مجاهد: ما أفظ جوابك وأثقله يا رجل! كأنك والله تاجر لا صلة له بالأشياء إلا من أثمانها؛ فنظره إلى فراهة الدابة من الدواب وإلى فراهة الجارية من الرقيق سواء.

قال الرجل: فأنا والله تاجر، وأنا الساعة على طريق الإيوان٢ الذي يلتقي فيه تجار العراق والشام وخراسان، وقد ضربت في هذه التجارات وحسنت بها حالي وتأثلت منها، غير أن قلب التاجر غير التاجر، فليس يزن ولا يقبض، ولا يبيع ولا يشتري. أما "تلك" فأصبحت نسيانا ذهب لسبيله في الزمن!


١ الحسن البصري: الإمام العظيم.
٢ هذه الكلمة خير ما يعبر بها عن "البورصة"، وكذلك كانوا يستعملونها.

<<  <  ج: ص:  >  >>