للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشيطان *:

قال الشيخ أبو الحسن بن الدقاق: كان شيخي أبو عبد الله محمد الأزهري العجمي "رضي الله عنه" رجلا صاحب آيات وخوارق مما فوق العقل، كأنما هو سر من الأسرار الجارية في هذا الكون، قد بلغ بنفسه رتبة النجم في أفقه البعيد؛ ففيه أهواء الإنسان وشهواته وطباعه، إلا أنها كنوز النجم في تألقه ولألائه من إشراق روحه وصفائها، وقد ارتفع بآدميته فوق نفسها؛ فاصبح في الناس ومعه سماؤه, يجعلها بين قلبه وبين الدنيا.

والرجل إذا بلغ هذا المبلغ كان حيا كالميت ساعة احتضاره؛ ينظر إلى كل ما في الحياة نظرة من يترك لا من يأخذ، ومن يعتبر لا من يغتر، ومن يلفظ لا من يتذوق، ومن يدرك السر لا من يتعلق بالظاهر؛ ويرى الشهوات كأنها من لغة لا يعرفها، فهي ألفاظ فيها معاني أهلها لا معانيه, وإنما تلبس كلماتنا معانيها من أنفسنا. وفي النفوس مثل الهشيم: إذا وقعت فيه المعاني المشتعلة استطار حريقا وتضرم، وفيها على المجاهدة مثل الماء؛ فإذا خالطته تلك المعاني انطفأت به وخمدت.

وقد سألت الشيخ مرة: كيف تحدث الكرامات والخوارق للإنسان؟ فقال: يا ولدي إن الإنسان من الناس المحجوبين يتصرف في جسمه ولا يكاد يملك لروحانيته شيئا، فإذا أبلى في المجاهدة ووقع في قلبه النور، تصرف في روحانيته ولا يكاد يملك لجسمه شيئا، فمن أطاق أن ينسلخ من بشريته، واتسعت ذاته في معاني السماء بمقدار ما ضاقت من معاني الأرض، وكان معدا لأن يتحقق في روحانيته، معانا على ذلك بطبيعة فوق الاعتدال, فقد شاع في الكون، وأصاب له وجها ومذهبا إلى تلك القوة التي تهدم في العالم وتبني، وتفرق وتجمع، وتنقل الصور بعضها إلى بعض؛ فإن الكون كله جوهر واحد هو النور، حتى الجبل هو نور صخري، وحتى البحر هو نور مائي، وحتى الحديد


* انظر "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".

<<  <  ج: ص:  >  >>