للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[البك والباشا]

وحدثني صاحب سر "م" باشا قال: جاء يوما إلى زيارة الباشا رجل دخل علي متهللا مشرق الوجه كأنه مضاء من داخله بشمعة ... ويترنح عطفاه كأنما تهزه أسرار عظمته؛ ويمشي متخلعا كالمرأة الجميلة التي أثقلها لحمها وأثقلتها المعاني الكثيرة من أعين الناظرين إليها، وعلى شفتيه خيال من فكرة هؤلاء الكبراء والمغرورين الذين لا يأمر أحدهم رجلا صغيرًا إلا ليعلمه أنه هو كبير، فيكون في الأمر شيئان: الأمر واللؤم؛ وأقبل علي في هيئة شامخة لو نطقت لقالت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . سبح الله الذي خلق في الأسد شعرة جبارة خرج منها الأسد كله.

سبحان الله ولا إله إلا الله. هذا "فلان باشا" الذي قرأت في الصحف أمس أنهم أنعموا عليه برتبة الباشوية؛ خلقه الله من تراب وحولت الرتبة هذا التراب الذي فيه إلى ذهب خالص ... ينظر إلي وبرغمه أن تقف عيناه علي وعلى الحائط، ولا تجد نفسه المزهوة سبيلا إلى التعبير عن الرتبة إلا هذا الازدراء المنبعث من شخصه العظيم لمن لم يكن كشخصه. ما بين أمس واليوم زاد هذه الزيادة الآدمية، أو كأنما كانت صورته خطوطًا فقط فوضعت فيها الألوان ...

"باشا"! هذه الباء وهذه الألف وهذه الشين الممدودة ليست حروفا خارجة من الأبجدية العامة؛ فإن الأبجدية قد تجعل الباء في بليد مثلا، والألف في أبله، والشين الممدودة في شاهد زور مثلا مثلا ... بل تلك حروف من حروف الدولة، منتزعة من قوة قادرة على أن تجعل لحياة صاحبها من الشكل ما يسبغه الفن على الحجر من شكل تمثال ينصب للتعظيم.

قال: وكنت أعرف هذا الرجل، وهو رجل أمي لا يحسن إلا كتابة اسمه كما تكتب الدجاجة في الأرض ... فكانت الرتبة عليه كإطلاق لفظ الحديقة على صخرة من الصخور الصلدة؛ وهذا مما يحتمله المجاز بعلاقة ما؛ ولكن الذي لا يسوغ في المجاز، ولا في مبالغات الاستعارة، ولا في خرافات المستحيل، أن تزعم الصخرة

<<  <  ج: ص:  >  >>