للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وزن الماضي]

وقال صاحب سر "م" باشا: إني لجالس ذات يوم وفي يدي كتاب لبعض المتفلسفة من ملاحدة أوروبا الذين يريدون أن يفهموا ما لا يفهم؛ وكان الباشا قد رآني مرة أنظر فيه وأتدبر مسائله الغامضة، فقال لي: يا بني! إن أحد الكلاب كان شاعرًا فيلسوفا، فنظر ليلة في النجوم فراعته وحيرته؛ فآلى أن يفهمها بعقله وفرغ لدرسها مدة طويلة، ثم وضع فيها كتابا نفيسا ضخما، كان أعظم كتب الفلسفة وأشدها غموضا عند الكلاب، وكان اسمه: العظام المبعثرة فوقنا١.

قال: فأنا جالس أقرأ هذا الكلام الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح. إذ دخل علي كاتب متفلسف ملحد من هؤلاء المدخولين في عقولهم، المفتونين بأوروبا ومذاهبها وعلوياتها وسفلياتها ... وهو يكتب في الصحف، ويؤلف الرسائل، وقد جاء يستصرخ الباشا على فلاح شاركه في زراعة أرضه، فزرعه الفلاح فيها وحصده، ودهاه بكيده، وابتلاه بغلظته، وتهدده بالنقمة.

وكان هذا الفلاح الساذج الغرير قد سبقه إلي وعرفه لي تعريفا قاموسيا محيطا من مادة كفر يكفر ... ثم قال بعد ذلك: إنه "بياع كلام" يصدق ويكذب حسب الطلب ... والذمة نفسها ليست عنده إلا "عملية حسابية"؛ وهو في أقوى جهاته لا ينفع الدنيا بما تنفعها به البهيمة من أضعف جهاتها.

أما الكاتب فيقول عن هذا الفلاح: إنه لا يدري أهو يتم بهائمه أم بهائمه هي التي تتمه، وإن الذي يرفع القضية على مثل هذا المخلوق إلى محكمة لا يكون إلا كالذي يقعقع بالعصا على جحر فيه الحية السامة.

ورأى المتفلسف الكتاب على يدي، فتهلل واستبشر وقال لي: هذا نسب بيننا ... فأدركت من كلمته هذه جملته وتفصيله، وخيل إلي أني أرى فيه نفسه


١ لا ريب أن المؤلف قد بحث في كتاب "الوسائل العلمية" للانتفاع بهذه العظام المبعثرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>