للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القلب المسكين "٤":

أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تتيممنا حتى بغته ذلك، فساوره القلق، واعتراه ما يعتري المحب المهجور إذا فاجأه في الطريق هاجره؛ أرأيت مرة عاشقًا جفاه الحبيب وامتنع عليه دهرًا لا يراه، وصارمه مدة لا يكلمه، فنزع نومه من ليله، وراحته من نهاره، ودنياه من يده، وبلغ به ما بلغ من السقم والضنى، ثم بينا هو يمشي إذ باغته ذلك الحبيب منحدرًا في الطريق؟

إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته متلعثم يكرر كلمة واحدة: هي هي هي..

ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثل شعور المحتضر أن هذه الدنيا قد نفته منها!

ولو اطلعت على دمه في عروقه لأبصرته مخذولًا يتراجع كأن الدم الآخر يطرده.

إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيرد عليه الحب مع كل شهوة نوعًا من الذل، فيكون بإزاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة.

لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روه وثبت إلى رأسه هو هوت فجأة إلى قدميه!

غير أن صاحبنا نحن لم يكن مهجورًا من صاحبته، ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحيانًا عملًا واحدًا بالعاطفتين المختلفتين؛ إذ كان دائمًا على حدد الإسراف ما دام حبًّا، فكل شيء فيه قريب من ضده، والصدق فيه من ناحية مهيأ دائمًا لأن يقابل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين معد له الشك بالطبيعة؛ والحب نفسه قضاء على العدل، فإنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب -مع أنه حبيب- يخافه عاشقه من أجل أنه حبيب!

<<  <  ج: ص:  >  >>