للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سر النبوغ في الأدب ١:

لو ترجمنا الخاطرة التي تمر في ذهن الحيوان الذكي حين ينقاد في يد رجل ضعيف أبله يصرفه ويديره على أغراضه، فنقلناها من فكر الحيوان إلى لغتنا، وأديناها بمعنى مما بين الإنسان والحيوان -لكانت في العبارة هكذا: ما أنت أيها الأبله فيما يبني وبين الحقيقة المدبرة للكون إلا نبي مرسل صلى الله عليه وسلم ... ذلك أن التركيب الذي يبين به الإنسان من الحيوان قد جعل دماغ هذا الحيوان خاتمًا من الله دمغ به على خصائصه فأفرغه الله في جلده، ووضع في رأسه ذلك القفل الإلهي الذي حبسه في باب الاضطرار من غرائزه البهيمية، وأقفل به على الدنيا العقلية المتسعة بينه وبين الإنسان؛ فالكون عنده لغو كله ليس فيه إلا حقائق يسيرة، ثم لا تفسير لهذه الحقائق إلا من طبيعته هو، فجلده أدق تفسير فلكي ... للشمس والنور والهواء وما يجيء منها؛ وجوفه أصح تعبير جغرافي ... للكرة الأرضية وما تحمل، وجوعه وشبعه هما كل فلسفة الشر والخير في العالم! ...

فأساس الذكاء عاليًا ونازلًا هو التركيب الطبيعي لا غيره: لو زادت في الدماغ ذرة أو نقصت لزادت للدنيا صورة أو نقصت؛ فبالضرورة تكون هذه هي القاعدة فيما نرى من تباين حدة الذكاء في أفراد كل نوع من الحيوان، وما نشهد من ذلك في أحوال الناس، من الفطنة إلى الذكاء* إلى الألمعية إلى الجهبذة إلى النبوغ إلى العبقرية؛ وهي طبقات من ألفاظ اللغة لأحوال قائمة من هذه المعاني ترجع إلى درجات ثابتة في تركيب الدماغ.

ومما يسجد له العقل الإنساني سجدة طويلة إذا هو تأمل في حكمة الله ومر يتصفح من أسرار ما نحن بسبيله من الكلام على النبوغ -أن هذا الوجود الذي يحمل أسرار الألوهية في كرة متقاذفة في الفضاء الأبدي، وأن الأرض التي تحمل


١ المقتطف: يناير سنة ١٩٣٣.
* عندنا أن الفطنة في اللغة، دون الذكاء؛ تقابل ما عند الحيوان من التنبه؛ والذكاء: والتوقد واللهيان.

<<  <  ج: ص:  >  >>