للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلمات ١ عن حافظ *

ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنة الأشياء ولم أجد مكان قلبي؛ أيها القلب المسكين، أين أذهب بك؟

هذا ما أجبت به "حافظ" حين سألني مرة: ما لك لا ترضى ولا تهدأ ولا تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو راضٍ مستقر هادئ، كأنما قضى من الحياة نهمته ولم يبق في نفسه ما تقول نفسه ليست ذلك لي!. وكنت أعجب لهذا الخلق فيه ولا أدري ما تعليله إلا أن يكون قد خلق مطبوعًا بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك إلا أنه ابن القدر؛ تأتيه الأفراح والأحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصبي ألطاف أبيه ولطمات أبيه ...

وقد قلت له مرة: كأنك يا حافظ تنام بلا أحلام! فضحك وقال: أو كأنني أحلم بغير نوم ...

ولقد عرفته منذ سنة ١٩٠٠ إلى أن لحق بربه في سنة ١٩٣٢، فما كنت أراه على كل أحواله إلا كاليتيم: محكومًا بروح القبر، وفي القبر أوله؛ ولما أزمع السفر إلى اليونان قلت له: ألا تخشى أن تموت هناك فتموت يونانيًا ... فقال: أو تراني لم أمت بعد في مصر؟ ... إن الذي بقي هين!

ومن عجائب هذا اليتيم الحزين أنه كان قوي الملكة في فن الضحك، كأن القدر عوضه به؛ ليوجده في الناس عطف الآباء ومحبة الإخوة. ولم يخل مع فقره من ذريعة قوية إلى الجاه، ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم حشمت باشا، ثم سعد باشا زغلول؛ وهذا نظام عجيب في زمن "حافظ" يقابل الاختلال العجيب في نفس حافظ؛ فالرجل


١ كتبها في الذكرى الثالثة لوفاته.
* لما توفي حافظ رحمه الله كتبنا فصلًا طويلًا عن أدبه للمقتطف، فلم نعرض في كلماتنا هذه لشيء من أدب الرجل وإنما هي ذكرى وبقايا من الأيام.

<<  <  ج: ص:  >  >>