للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[تقديم الطبعة الأولى]

اتصل الغرب المسيحي بالشرق الإسلامي اتصال اعتداء مسلح طوال قرنين كاملين من الزمن، من نهاية القرن الحادي عشر إلى آخر القرن الثالث عشر الميلادي، وهو اعتداء الحروب الصليبية، واختبر في هذا الاحتكاك عقيدة الإسلام في قوتها، وضعف المسلمين في مجتمعهم، وسعة ما يملكون من ثروة في بلادهم، فتأثر بالإسلام، وما جاء فيه من توحيد الله وبشرية الرسول: "لوثر"١ "Luther", "كالفن"٢ "Calvin"، فيما قاما به من الإصلاح الديني في النصف الأول من القرن السادس عشر، وظهر أثر الإسلام واضحا في رفض البروتستنتينية: "التثليث"، و"عصمة" البابا، وكونه صاحب السلطة الأخيرة التي لا يجوز التعقيب عليها في تحديد رأي المسيحية، وغير ذلك من الرسوم والعقائد التي تعتبرها الكنيسة الرومانية -وهي الكنيسة الكاثوليكية- جزءا من الإيمان المسيحي.

ويعتبر الغاء عصمة البابا في الإصلاح الديني المسيحي ذا أثر قوي في توجيه الإنسان الغربي نحو الاستقلال في التفكير، وفي رد اعتبار قيمته في الوجود. كما يعتبر رفض سلطة الباب في تفسير المسيحية، على أنها السلطة الأخيرة التي لا تعقيب عليها: سببا مباشرا في نشاط الفكر الأوربي في المعرفة. وفي إفساح مجال للعلم والقوة على الملاحظة والتجربة، وفي وضع معايير جديدة للحياة الإنسانية، ولقيم المجتمع البشري، لا تتعارض مع "الكتاب المقدس"، وقد سلك "لوثر" نفسه -وكذا من عاونه في إصلاحه الديني- طريق الملائمة مع نصوص "الكتاب المقدس" في رفض ما رفضه وقبول ما قبله من عقائد ورسوم للعبادة، دون اعتبار آخر لسلطة بشرية أخرى تعقب على تفسيره وفهمه.

كما أفاد الغرب من هذا الاحتكاك -مرة ثانية- في إعداد نفسه ورسم خططه، انتهازا لزيادة ضعف المجتمع الإسلامي وتفككه، كي يحصل على ما لدى المسلمين من ثروة، تعد في تنوع مصادرها ومقدار كميتها أضخم ما عرف من ثروة في أي مكان آخر من العالم القديم.


١ ١٤٨٣: ١٥٤٦م.
٢ ١٥٠٩: ١٥٦٤م.

<<  <   >  >>