للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بابات، حتى صح زجره، وجاء بصبحه فجره، يؤثر عنه في ذلك أخبار، فيها عجب واعتبار. وكان أديبا محسنا. وعالما متفننا. فمن ذلك قوله، يمني نفسه بملك مصر والحجاز، ويستدعي صدور تلك الأعجاز (خفيف) :

مضنضعَ العَينَ أن تذوقَ المَنَاما ... حُبُّها أن تَرَى الصَّفَا والمَقامَا

لي دُيونٌ بالشرق عِندَ أُناسٍ ... قَد أحلُّوا بالمشعرينِ الحَرَاما

إنْ قَضَوْها نالوا الأَمانِي وإلاَّ ... جعلوا دُونَها رقاباً وهَمَا

عَنْ قَرِيبٍ تَرَى خُيولَ هِشامٍ ... يَبْلُغُ النِيلَ خَطْوها والشامَا

وفي سنة ٣٦٨، أمر المنصور بن أبي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة، وذلك عندما استفحل أمره، واتقد جمره، وظهر استبداده، وكثر حساده، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان، وخشي أن يقع في أشطان. فتوثق لنفسه، وكشف له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه؛ ورفع الاستناد إليه؛ وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه، ويحله بأهله وذويه، ويضم إليه رياسته، ويتمم به تدبيره وسياسته، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه. فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظم. وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة، وحشد إليها الصناع والفعلة، وجلب إليها الآلات الجليلة، وسربلها بهاء يرد العيون كليلة؛ وتوسع في اختطافها، وتولع بانتشارها في البسيطة وانبساطها، وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها. فاتسعت هذه المدينة في المدَّة القريبة، وصار من الأنباء الغريبة. وبنى معظمها في عامين.

وفي سنة ٣٧٠، انتقل المنصور بن أبي عامر إليها، ونزلها بخاصته وعامته؛ فتبوأها وشحنها بجميع أسلحته، وأمواله وأمتعته، وأتخذ فيها الدواوين والأعمال،

<<  <  ج: ص:  >  >>