للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبدع الأول هو الماء. قال١: الماء قابل لكل صورة، ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء، والأرض، وما بينهما، وهو علة كل مبدع، وعلة كل مركب من العنصر الجسماني. فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض، ومن إنحلاله تكون الهواء، ومن صفوة الهواء تكونت النار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب. فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل فيها إليه. قال: والماء ذكر والأرض أنثى, وهما يكونان سفلا. والنار ذكر, والهواء أنثى وهما يكونان علوا.

وكان يقول: إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر -أي هو المبدأ وهو الكمال, هو عنصر الجسمانيات والجرميات، لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة. ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر، فما كان من صفوه فإنه يكون جسما، وما كان من كدره فإنه يكون جرما. فالجرم يدثر، والجسم لا يدثر. والجرم كثيف ظاهر، والجسم لطيف باطن, وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم، ويكون الجسم اللطيف ظاهرا، والجرم الكثيف دائرا.

وكان يقول: إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار، ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحسن والبهاء، وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره، ولا يبصر نوره، والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه، وهو الدهر المحض من نحو آخره، لا من نحو أوله، وإليه تشتاق العقول والأنفس، وهو الذي سميناه الديمومة، والسرمد، والبقاء، في حد النشأة الثانية.

فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله: الماء هو المبدع الأول، أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية، لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية، لكنه لما اعتقد أن العنصر


١ قصة الفلسفة اليونانية لأحمد أمين ص٢٠ "كان الماء عند طاليس هو المادة الأولى التي صدرت منها الكائنات وإليها تعود، وقد ملا عليه الماء شعاب فكره حتى خيل إليه أن الأرض قرص متجمد يسبح فوق لجج مائية ليس لأبعادها نهاية. ويرجح أرسطو أن يكون طاليس قد خلص إلى هذه النتيجة لما رأى الحياة تدور مع الماء، وجودا وعدما. فتكون الحياة حيث الماء، وتنعدم حيث ينعدم".

<<  <  ج: ص:  >  >>