للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان بأثينية نقاش غير حاذق، فأتى ديمقريطيس. وقال: جصص بيتك فأصوره، قال: صوره أو لا حتى أجصصه.

وقال: مثل العلم مع من لا يقبل وإن قبل لا يعمل، كمثل دواء مع سقيم وهو لا يداوي به.

وقيل له: لا تنظر، فغمض عينيه، قيل له: لا تسمع، فسد أذنيه، قيل له: لا تتكلم، فوضع يده على شفتيه، قيل له: لا تعلم، قال: لا أقدر, وإنما أراد به أن البواطن لا تندرج تحت الاختيار، فأشار إلى ضرورة السر، واختيار الظاهر.

ولما كان الإنسان مضطر الحدوث كان معزول الولاية عن قلبه، وهو بقلبه أكبر منه بسائر جوارحه، فلهذا لم يستطع أن يتصرف في أصله، لاستحالة أن يكون فاعل أصله. ولهذا الكلام شرح آخر، وهو أنه أراد التمييز بين العقل والحس، فإن الإدراك العقلي لا يتصور الانفكاك عنه، وإذا حصل لن يتصور نسيانه بالاختيار والإعراض عنه، بخلاف الإدراك الحسي. وهذا يدل على أن العقل ليس من جنس الحس، ولا النفس من حيز البدن.

وقد قيل: إن الاختيار في الإنسان مركب من انفعالين: أحدهما: انفعال نقيصة، والثاني: انفعال تكامل، وهو إلى الانفعال الأول أميل بحكم الطبيعة والمزاج، والآخر ضعيف فيه إلا إذا وصل إليه مدد من جهة العقل والتمييز والنطق، فينشئ الرأي الثاقب، ويحدث الحزم الصائب، فيحب الحق، ويكره الباطل؛ فمتى وقف هذا المدد من القوة الاختيارية كانت الغلبة للانفعال الآخر، ولولا تركب الاختيار عن هذين الانفعالين أو انقسامه إلى هذين الوجهين، لتأتي للإنسان جميع ما يقصده بالاختيار، بلا مهلة ولا ترجح، ولا هنية ولا تريح، ولا استشارة ولا استخارة.

وهذا الرأي الذي رآه هذا الحكيم لم أجد أحدا أبه١ له ولا عثر عليه، أو حكم به أو أومأ إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.


١ أبه له: فطن له؛ والتفت إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>