للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فصل الاستدلال بالحكمة]

والاستدلال بالحكمة١: أن يعرف أولاً حكمته٢، ثمّ يعرف أنّ من


١ مسألة الحكمة: من أعظم المسائل التي خاض فيها المبتدعة في تعليل أفعال الله وأحكامه وصفاته. وقد ذكر الشيخ رحمه الله أبياته المعروفة لمن سأله عن القدر، يُشير فيها إلى أنّها أصل حجة أهل الضلال في الخوض في هذه المسائل. يقول:
وأصلُ ضلالِ الخلقِ في كلِّ فرقة ... هُو الخوضُ في فعل الإله بعلّةِ
فإنّهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية
فإنّ جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة
مجموع الفتاوى ٨٢٤٦.
٢ الحكمة من صفات الله الذاتية؛ مثلها مثل الإرادة والمشيئة والكلام، فيُقال في الإرادة: إنّ الله سبحانه وتعالى لم يزل مريداً بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم، وأما إرادة الشيء المعين فإنما يُريده في وقته. وهو سبحانه يقدّر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها، فهو إذا قدّرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله. فالأول عزم، والثاني قصد.
وكذلك الحكمة: صفة ذاتية، لم يزل الله حكيماً، فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع، كانت الحكمة كذلك، وإن قدّر أنه قام به كلام، أو فعل متعلق بمشيئته، وأنه لم يزل كذلك، كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديماً، وإن كانت آحاده حادثة.
وقد أجمع المسلمون على أن الله موصوف بالحكمة، لكن تنازعوا في تفسير ذلك:
فقال الأشاعرة والجهمية: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده. ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة. وهم قد أطلقوا ألفاظها، ولكنهم لا يعنون بها معناها، بل يُطلقونها لأجل مجيئها في القرآن.
وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها، وأنه لم يخلق شيئاً لشيء، وأنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره والحكم المقصودة بذلك.
وقال أهل السنة: بل هو حكيم في خلقه وأمره. والحكمة ليست مطلق المشيئة، إذ لو كان كذلك، لكان كلّ مريد حكيماً. ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة، بل الحكمة تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة.
والله سبحانه حكيم رحيم، وقد أخبر أنه لم يخلق المخلوقات إلا بحكمة، كما قال في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} . والله سبحانه له في كلّ ما يخلقه حكمة يحبها ويرضاها، وهو سبحانه أحسن كلّ شيء خلقه، وأتقن كل ما صنع، فما وقع من الشر الموجود في المخلوقات، فقد وجد لأجل تلك الحكمة المطلوبة المحبوبة المرضية، فهو من الله حسن جميل، وهو سبحانه محمود عليه، وله الحمد عل كل حال، وإن كان شراً بالنسبة إلى بعض الأشخاص. فهو تعالى لم يزل عليماً، فعالاً لما يريد، وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته، التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، فلم يخلق شيئاً عبثاً. فالحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض، لاشتمال المفعول على ما يصلح أن يكون مراداً للحكيم.
فالله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة يحبها ويحصل بها محبوبه، فإنه لا يزال مراده الذي يحبه يحصل بفعله، وهو غني عن كل ما سواه، ورحمته لعبده، وإحسانه إليهم هو مما يُحبّه، وهو سبحانه إذا أمر العباد ونهاهم: أمرهم بما يحبه ويرضاه لهم، وهو يحبهم ويرضى عنهم إذا فعلوه؛ قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر ٧] .
لكن فرق بين ما يريد هو أن يخلقه لما يحصل من الحكمة التي يحبها، فهذا يفعله سبحانه، ولا بُدّ من وجوده، فإنّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وبين ما يُريد من العباد أن يفعلوه، ويحبه إذا فعلوه، ويأمرهم به من غير مشيئة منه أن يخلقه؛ فإنّ المشيئة متعلقة بفعله، والأمر متعلق بفعل عبده المأمور، فالإرادة منه تارة تكون بمعنى المشيئة، وتارة تكون بمعنى المحبة. فهو سبحانه محمود على كل حال، له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
انظر المصادر الآتية: مجموع الفتاوى ١٦١٣٠، ٢٩٧، ٣٠٣،، ١٧٩٥، ٩٩. ومجموعة الرسائل والمسائل ٥٢٤٢. ومنهاج السنة النبوية ١٤٤،، ٣١٦٨-١٧٧، ٢٠٧-٢٠٩، ٤٥. وبيان تلبيس الجهمية ١٢١٥. وكتاب الصفدية ١١٤٧. وشرح الأصفهانية ١٣٦٥-٣٦٨. ودرء تعارض العقل والنقل ٧٤٧٦-٤٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>