للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وظل هذا شأن العرب فى صدر الإسلام، فهم يتناشدون الشعر ولا يقيدونه إلا قليلا وفى ظروف خاصة، حتى مصّرت الأمصار، وراجعت العرب الأشعار، وأخذت فكرة التدوين تسلك طريقها فى تسجيل غزوات الرسول وأحاديثه وفى تقييد بعض الأخبار التاريخية، فدوّن زياد بن أبيه كتابا فى المثالب، ودوّن عروة ابن الزبير غزوات النبى عليه السلام وحروبه، ودوّن معاوية أخبار عبيد بن شريّة أو بعبارة أدق أمر غلمانه بتدوينها، وأخذ بعض الصحابة والتابعين يدوّن أحاديث الرسول عليه السلام. وقد يكون فى تدوين الأحاديث ما ينير لنا الطريق فى تدوين الشعر، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين كان ينكر تدوينها، ولم تدوّن تدوينا عاما إلا على رأس المائة، وكذلك نستطيع أن نقول إنه على الرغم من اهتمام القبائل بشعرها الجاهلى وشعرائها الذين يعدون مناط شرفها وفخارها لما يسجلون من مناقبها وأمجادها ومثالب خصومها فإنها لم تعمد إلى تدوين هذا الشعر إلا فى حقبة متأخرة من عصر بنى أمية.

ويظهر أنهم لم يكونوا يدوّنون حينئذ أشعار شعرائهم وحدها، بل كانوا يدونون معها أخبارهم، ولعل أقدم إشارة إلى هذه المدوّنات ما أسلفنا من رواية أصحاب الأخبار عن حماد فى أول تعلقه بالشعر من أنه نقب ليلة على رجل، فأخذ ما عنده وكان فيما أخذه جزء من شعر الأنصار! ويزعم حماد أن الوليد بن يزيد أرسل فى طلبه، فقال فى نفسه: «لا يسألنى إلا عن طرفيه: قريش وثقيف، فنظرت فى كتابى قريش وثقيف (١)» ويروى عن ثعلب أن الوليد بن يزيد جمع ديوان العرب وأشعارها وأنسابها ولغاتها، وأنه طلب لذلك من حماد وجنّاد الكوفيين ما عندهما من هذا الديوان، ثم رد إليهما ما أخذه منهما (٢)».

وإن صحت هذه الأخبار كانت دليلا على أنه أخذت تظهر مع أوائل القرن الثانى مدونات تاريخية للقبائل لعلها هى التى أعدت فيما بعد لتدوين الرواة أشعار كل منها على حدة بنفس الصورة التى نعرفها لديوان هذيل.

وتمضى بعد عصر الوليد بن يزيد فيلقانا أبو عمرو بن العلاء، وكان يعتمد على الرواية، ولكنّه كان يقيّد إلى جانبها كثيرا من الأشعار والأخبار حتى قالوا إن


(١) الأغانى ٩٤١٦
(٢) الفهرست ص ١٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>