للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سادسا وهو الاعتذار فأحسن فيه (١)» وهو تقسيم جيد غير أنه نسى باب الحماسة، وهو أكثر موضوعات الشعر دورانا على لسانهم.

ولا نستطيع أن نرتب هذه الموضوعات فى الشعر الجاهلى ترتيبا تاريخيّا، ولا أن نعرف كيف نشأت وتطورت، فإن الأصول الأولى لهذا الشعر انطمرت كما قدمنا فى ثنايا الزمن، وإن كنا نستطيع أن نظن ظنّا أنها تطورت من أناشيد دينية كانوا يتجهون بها إلى آلهتهم؛ يستعينون بها على حياتهم فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم وسادتهم، كما نشأ شعر الرثاء وهو فى أصله تعويذات للميت حتى يطمئن فى قبره، وفى أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة التى تكمن فيها آلهتهم والتى تبعث فيهم الخوف، ومعنى هذا كله أن موضوعات الشعر الجاهلى تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلهة إلى موضوعات مستقلة (٢).

ويظهر أنه كانت لا تزال فى نفوسهم بقية من هذه الصلة القديمة بين الشعر ودعاء الآلهة، يدل على ذلك أكبر الدلالة ما جاء فى القرآن الكريم من كثرة الربط بين الشعر والسحر وتعاويذ الكهنة فقد كانوا يرمون الرسول فى بدء دعوته تارة بأنه شاعر وتارة ثانية بأنه كاهن وتارة ثالثة بأنه ساحر {(وَقالُوا إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ)} وردّ عليهم القرآن دعواهم الكاذبة مرارا فى مثل: {(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ)} ومثل: {(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).} ويقول جلّ وعز فى سورة الشعراء: {(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)} وبعد ذلك: {(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ، وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَاِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)}.

وواضح أن القرآن الكريم يحكى على ألسنتهم ما كانوا يؤمنون به من العلاقة بين


(١) ديوان المعانى ١/ ٩١.
(٢) انظر تاريخ الأدب العربى لبروكلمان (طبع دار المعارف) ١/ ٤٤ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>