للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى العصر الإسلامى، وكأنما أصبح همّ الهاجى أن يضرب عدوه الضربة القاضية، حتى لو كان شريفا معروفا بكثرة المناقب كما يلاحظ الجاحظ، بل لكأن مناقبه كانت تؤذيهم، فكانوا يلطخونه بالعار ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن ثمّ لا نعجب حين نجد شاعرا يزعم أن النعمان بن المنذر لم يولد لرشدة، فهو ليس سليل المناذرة إنما هو سليل صائغ بالحيرة، يقول فيه عبد قيس بن خفاف البرجمى (١):

لعن الله ثم ثنّى بلعن ... ابن ذا الصائغ الظلوم الجهولا

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا (٢)

وكان النعمان كثير الوقائع فى قبائل العرب وخاصة عبد القيس فتعرض له شاعرها يزيد بن الخذّاق بهجاء كثير يتوعده وينذره ويخيفه، يقول فى بعضه (٣):

نعمان إنك خائن خدع ... يخفى ضميرك غير ما تبدى

وقصة هجاء المتلمس وطرفة لعمرو بن هند مشهورة

ولم يكن جمهور هجائهم يفرد بالقصائد، بل كانوا يسوقونه غالبا فى تضاعيف حماستهم وإشادتهم بأمجادهم وانتصاراتهم الحربية، ولا نبعد إذا قلنا إن الحماسة أهم موضوع استنفد قصائدهم، فقد سعرتهم الحروب، وأمدّها شعراؤهم بوقود جزل من التغنى ببطولتهم وأنهم لا يرهبون الموت، فهم يترامون عليه تحت ظلال السيوف والرماح مدافعين عن شرف قبائلهم وحماها. ويرتفع هذا الغناء بل قل هذا الصياح فى كل مكان، بحيث يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمى مجموعته من أشعارهم وأشعار من خلفوهم باسم الحماسة، فهى التى تستنفد أشعارهم وقصيدهم، وهى ديوانهم الذى يسطّر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم، وهل هناك فخر أعلى من فخر الشجاعة والتنكيل بالأعداء. واقرأ فى المفضليات والأصمعيات فستجد هذا الفخر وما يطوى فيه من حماسة يدور على كل لسان، وستجد الشاعر فيه يتحدث دائما عما تعتز به قبيلته من الأخذ بأوتارها ومن تضيق الخناق على أعدائها، وهو يعدد أيامها مشيدا بحسبها ونسبها وصبرها فى


(١) الحيوان ٤/ ٣٧٩.
(٢) يرزأ: ينقص، والفتيل: الهنة فى شق النواة.
(٣) المفضليات ص ٢٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>