للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غير أن النابغة فصّل الصورة حتى يحكم المعنى ويكشفه كشفا دقيقا، فالنسور والعقبان خزر العيون، وهى تشبه فى ألوانها ثياب المرانب السوداء التى يلبسها الشيوخ، وهى تسير خلفهم موقنة بأنها لا بد أن تجد زادها من أعدائهم، وأنها على وشك الوقوع على ما تريد من هذا الزاد، وهى لذلك لا تزال جانحة، عادة عرفتها فيهم لا يخلفونها ولا يمطلونها. وقد أعجب القدماء طويلا بهذه الصورة عند النابغة، فتعاور عليها الشعراء، وكل منهم يحاول أن يثبت مهارته وقدرته (١).

ويمضى النابغة فيصور شجاعة الجيش، وما على خيله من أثر للطعان وجروح بين مدم ومتجمد عليه الدم. ونلاحظ هنا الدقة فى الوصف، وهى دقة استتبعت ضربا من الطباق. وقد صورهم يتساقون كئوس المنية، كناية عن جرأتهم فى الحرب واقتحامهم لأهوالها، ثم صور كيف يثخنون فى أعدائهم، ولم يلبث أن جاء بصورة طريفة ظاهرها ذم وباطنها مدح شديد، فالغساسنة لا عيب فيهم إلا عيب واحد، وهو ليس فى حقيقته عيبا، بل هو مفخرة من مفاخرهم، فسيوفهم مفللة من طول قراعها ومضاربتها للكتائب. ومثل هذا التعبير الذى سبق إليه يدل على أنه كان يدقق فى معانيه وألفاظه جميعا. ولم ينس أن يشير إلى نصرهم القديم فى يوم حليمة الذى هزم فيه المناذرة شر هزيمة، حتى لقد قتل المنذر بن ماء السماء فى ساحة المعركة. وقد جعل سيوفهم المفللة تشق الدروع المتينة وتمزق أصحابها تمزيقا مطيحة برءوسهم ومرسلة شررا لا ينقطع ضياؤه حتى لكأنه أشعة الحباحب، وسيولا من الدماء كأنها إيزاغ المخاض. حتى إذا استوفى كل ما أراد من تصويرهم بالشجاعة فى ميادين الحروب انتقل يصورهم فى سلمهم متحدثا عن شيمهم وشمائلهم ودينهم ونعيمهم، يقول:

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود، والأحلام غير عوازب (٢)

محلّتهم ذات الإله، ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب (٣)


(١) انظر الصناعتين العسكرى (طبعة الحلبى) ص ٢٢٥ والوساطة للجرجانى (طبعة الحلبى) ص ٢٧٤.
(٢) الأحلام: العقول. وعوازب: جمع عازب وهو الغائب.
(٣) محلتهم: منزلتهم، ذات الإله: يقصد كنائسهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>