للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد أخذته آلام المرض وأهله يسوون له فراشه رحمة به وعطفا عليه. ويحلف له بأنه برئ مما اتهمه به الواشى، إذ لا يزال يرعى أمانة عهده، وكل ما هناك أنه ألم بديار الغساسنة، فأكرموه وحكموه فى أموالهم، فوجب عليه أن يشكر لهم يدهم وصنيعهم كما يشكر النعمان من يرعاهم من الشعراء ويغدق عليهم من نواله. وهو بذلك يقيم الحجة على النعمان، فليس هناك كفران لنعمته عليه ولا جحود لولائه، وما يلبث أن يرفعه على جميع الملوك من غساسنة وغير غساسنة، فهو كالشمس الساطعة وغيره من الملوك كالنجوم، يتوارون فى ضيائه ومجده، وهى صورة باهرة لا شك أنها تركت أثرا بليغا فى نفس النعمان. وقد تلاها باستعطافه، فصور له ما صبّه عليه من غضب بالقار يصبّ على الأجرب فيتحاماه الناس. ويعود إلى بيان منزلة صاحبه وأن غيره من الملوك لا يرتقون إلى مكانته، بل يضطربون دون سمائه. ويقول له:

هب أن مديحى للغساسنة هفوة واعف عنى، فإن لكل شخص هفوة، وأين الأخ الذى لا يهفو ولا يعثر؟ ومثلك حرى بأن لا يظلم أصفياءه ومن يخلصون له الولاء، فإن ظلمتنى قبلت ظلمك، وإن أسدلت علىّ عفوك ورضاك فليس غريبا منك، فمثلك يعتب ويصفح الصفح الجميل.

ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل دلالة بينة على براعة النابغة فى اعتذاره ومديحه جميعا، فقد كان يعرف كيف ينوّع معانيه وكيف يسلك إليها شعابا لم يسلكها أحد من قبله. والذى لا ريب فيه أن باب الاعتذار والاستعطاف ضيق، ولكنه عرف بمقدرته الخيالية كيف ينفذ منه إلى صور طريفة ومعان دقيقة، يقوده فى ذلك ذوقه الحضرى الذى نصب أمام عينه اتصاله بالغساسنة ذنبا كبيرا وجرما لا يغتفر فى حق النعمان بن المنذر، وقد أخذ يتنصل من هذا الجرم تارة ويعظم فضيلة العفو عن المذنب تارة ثانية. وبذلك كان فاتحا لباب الاعتذار على مصراعيه، وعلى هديه تبعه الشعراء فى العصور الإسلامية متخذين منه قدوتهم.

وإذا كنا أعجبنا باعتذارات النابغة ومديحه فإننا نعجب أيضا برثائه للنعمان بن الحارث الأصغر الغسانى، وهو يستهله بالنسيب ثم يصف ناقته مشبها لها بحمار وحشى، ويخرج من ذلك إلى الرثاء، فيقول إنه أحزنه نعى النعمان وإن كان سرّ قيسا لما أثخن فيها بحروبه. وهو يعبّر بذلك عن وفائه واعترافه بالجميل،

<<  <  ج: ص:  >  >>