للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يثرب، فعاب عليه أهلها ذلك فى قصيدته المذكورة، فلم يأبه لهم حتى أسمعوه إياه فى غناء، ففطن إلى ما قالوا ولم يعد إلى ذلك (١). ولكن القصيدة كما قدمنا مما نحل على النابغة، فحرى أن تكون القصة مثلها منحولة.

وإذا كان النابغة يعنى بألفاظه عناية راعت السابقين فإنه يعنى كذلك بمعانيه، وهى عناية أتاحت له كثرة الخواطر فى اعتذارياته على الرغم من ضيق هذا الموضوع، وأيضا فإنها أتاحت له ضربا من ترتيب أفكاره، ويتضح ذلك فى تنسيقه لموضوعات بعض قصائده، إذ نراه يحسن التخلص من موضوع إلى موضوع، وارجع إلى معلقته فإنك تراه يخرج من النسيب إلى وصف ناقته خروجا تسنده المناسبة، حتى إذا أتم هذا الوصف قال:

فتلك تبلغنى النعمان إن له ... فضلا على الناس فى الأدنى وفى البعد

وكذلك صنع فى اعتذاريته العينية فإنه خرج من النسيب إلى الاعتذار خروجا متصلا، إذ قال إنه كفّ عن التشبيب والحب لشيبه ولما يشغله من هم، هو غضب النعمان، على هذه الشاكلة:

وقد حال همّ دون ذلك شاغل ... مكان الشّغاف تبتغيه الأصابع (٢)

وعيد أبى قابوس فى غير كنهه ... أتانى ودونى راكس فالضّواجع

وهذه العناية البالغة بالمعانى والألفاظ كان يؤازرها عنده عنايته بالصور وما يطوى فيها من تشبيهات واستعارات؛ ولا نلاحظ عنده الكثرة من الصور فحسب، بل نلاحظ أيضا القدرة على الابتكار ومفاجأة السامع بالأخيلة التى تخلب لبّه، وخاصة حين يتنصّل للنعمان بن المنذر من ذنبه، وحين يصور بطشه بمن يغضب عليهم مستعطفا مسترحما. وكان له ذوق جيد فى اختيار صوره ومعانيه جميعا، وهو ذوق هذبته الحضارة التى نعم بها فى الحيرة وبلاط الغساسنة، فإذا هو رقيق الحس رقة شديدة، وإذا هو يأتى فى مديحه ورثائه بمعان حضارية غير مألوفة للجاهليين. وليس ذلك فحسب، فإنه يفتح صفحة جديدة هى صفحة


(١) ابن سلام ص ٥٥ وما بعدها والأغانى (طبعة دار الكتب) ١١/ ١٠.
(٢) الشغاف: حجاب القلب.

<<  <  ج: ص:  >  >>