للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منهم الحطيئة، ولقّن الشعر ولديه بجيرا وكعبا، وطار صيت الأخير فى العصر التالى عصر المخضرمين.

نحن إذن بإزاء شاعر ممتاز خبر صناعة الشعر الجاهلى وعرف أساليبها، واستطاع أن يؤدّى أجمل صورة لها فى لفظه وقوالبه وصيغه، وقد لاحظ القدماء ذلك وعبروا عنه عبارات مختلفة، فقالوا إنه كان يصنع قصائده الطويلة فى حول كامل وإنه صنع سبع حوليّات (١)، وينسب الجاحظ هذا القول إلى زهير نفسه، فيقول:

«كان زهير بن أبى سلمى يسمى كبار قصائده الحوليات، ولذلك قال الحطيئة:

خير الشعر الحولىّ المحكك (يقصد شعر أستاذه وشعره) وقال الأصمعى: زهير بن أبى سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جوّد فى شعره ووقف عند كل بيت قاله وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية فى الجودة (٢)». ويعلق الجاحظ على صنعة زهير وشعره فى موضع آخر، فيقول:

«من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتا (كاملا) وزمنا طويلا يردّد فيها نظره ويجيل فيها عقله ويقلّب فيها رأيه، اتهاما لعقله وتتبعا على نفسه، فيجعل عقله زماما على رأيه، ورأيه عيارا على شعره، إشفاقا على أدبه، وإحرازا لما خوّله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلا خنذيذا (تامّا) وشاعرا مفلقا (٣)».

وسواء سمّى زهير قصائده الطويلة بالحوليات أو سماها الرواة بهذا الاسم فإن هذه التسمية تدل على مدى ما أحس به القدماء تلقاء مطولاته، فقد أحسوا فيها بجهد شديد، وتصوروا أن هذا الجهد يستنفد آمادا بعيدة من الزمن، وتخيلوها حولا كاملا، ومضوا يسمون زهيرا والحطيئة وأضرابهما عبيد الشعر لما شعروا عندهم من طول الثّقاف والتنقيح والتجويد والتحبير، وكأنهم يلغون حريتهم وإرادتهم، فهم عبيد فن الشعر، يخضعون لإرادته الفنية وما يطوى فى هذه الإرادة من تنسيق محكم للألفاظ والصيغ. ويظهر أن زهيرا كان يعرف بذلك من قديم، فهم يروون عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: «زهير شاعر الشعراء لأنه كان لا يعاظل فى


(١) الخصائص لابن جى (طبع دار الكتب المصرية) ١/ ٣٢٤.
(٢) البيان والتبيين (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ٢/ ١٣.
(٣) المصدر نفسه ٢/ ٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>