للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دوّخ الأقران والأبطال فى حروب داحس والغبراء، وبذلك غسل مذمة ولادته ولونه وفلح شفتيه، والذى لا شك فيه أنه كان على خلق عظيم وأنه كان يجمع إلى فروسيته المادية فروسية معنوية أو خلقية.

ولا بد أن نلاحظ بصفة عامة أن الفروسية الجاهلية بعثت فى نفوس أصحابها ضربا من التسامى والإحساس بالمروءة الكاملة فإذا هم يتغنون دائما بمجموعة من الفضائل والخصال الحميدة، واقرأ فيهم فستراهم يتحدثون عن كرمهم الفياض ووفائهم وحلمهم وأنفتهم وعزتهم وصبرهم على الشدائد وتحمل المشاق وحفاظهم على العهد وحماية الجار. وهو جانب واضح فى أشعار عنترة، ونظن ظنا أنه نماه عنده ما قصه الرواة من أنه طلب عبلة من عمه مالك فأباها عليه لسواده، ولأنه ابن أمة، وقد ظل يتغنى بها طوال حياته تغنى المحب المحروم، وهو تغن نستشف فيه غير قليل من الإحساس بالحزن واليأس. ومن ثم كان يمكن أن يعد أبا لشعر الحب العذرى عند العرب، كما يعد فعلا أبا للفروسية العربية بخصالها وخلالها النبيلة السامية التى استرعت أنظار الصليبيين، فاتخذوا منها مثالا لفروسيتهم وما انطوى فيها من حب عذرى (١).

وردّد البصر فى أشعار عنترة فستجده يأسر لبك بمثله الخلقية الرفيعة، فهو مع فروسيته وبذله لنفسه فى سبيل قومه سمح السجايا سهل المخالطة والمعاشرة لا يبغى على غيره ولا يحتمل البغى ولا يظلم ولكنه لا يستكين للظلم، فإن ظلم تحوّل كالإعصار العاصف حتى يأتى على ظالمه. وقد يشرب الخمر ولكنها لا تفسد مروءته، وإذا دعاه داعى المكرمات لبىّ باذلا كل ما يملك عن طيب نفس، يقول-فى معلّقته- مخاطبا ابنة عمه عبلة التى شغف قلبه بها حبّا:

أثنى علىّ بما علمت فإننى ... سمح مخالقتى إذا لم أظلم

فإذا ظلمت فإن ظلمى باسل ... مرّ مذاقته كطعم العلقم (٢)


(١) انظر قصة الحضارة لول ديورانت الجزء الثالث من المجلد الرابع، الفصل الخامس الخاص بالفروسية ص ٤٤٦ وما بعدها.
(٢) باسل: كريه.

<<  <  ج: ص:  >  >>