للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

الباب الثّالث: في تأويل ظواهر الإنجيل

/ (١/٧٧/ب) اعلم - رحمك الله - أنه إنما دخل الخلل على النصارى وغيرهم ممن بضاعته من المعقول مزجاة، ومن جهلهم بمقتضيات الألفاظ وعدم المعرفة بوجوه الكلام ولقصور أفهامهم هابوا تأويل الظواهر فلم يحملوها على بعض محتملاتها بالدليل، وليس ذلك صواباً، بل ينبغي حراسة ما دَلَّ عليه دليل العقل الذي لا احتمال فيه، فإذا ورد لفظ عرض ظاهره على ما ضبطه دليل العقل، فإن لم يَنْبُ عنه استعمل الظاهر من اللفظ ولم يتأول، وإن نبا عنه طُلب له [وجه] ١ يحمل عليه ما يحتمله ليجمع بين اللفظ وبين مقتضى العقل٢، إذ الشرع لا


١ في ص (وجها) ولعل الصواب ما أثبته.
٢ كان الأولى بالمؤلِّف في ردّه على النصارى في هذا الباب أن يستفتحه ببيان حقيقة الأناجيل وألفاظها: فإن أناجيل النصارى ليست قطعية الثبوت والدلالة، بل هي ظنية إن لم تكن منتفية عنها. وذلك بنص القرآن الكريم في أخباره بتحريف أهل الكتاب لما أنْزَل عليهم، ولما ثبت من وجود التناقض والاختلاف في الأناجيل وعدم السند المتصل المتواتر لكتبهم، واعتراف بعض أحبارهم بكل ذلك كما سنبيّنه في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.
وعلى فرض التسليم الجدلي لهم بصحة أناجيلهم وفيها تلك الألفاظ التي زل فيها النصارى وهي - الأبّ والرّبّ والإله والابن - فإننا نجد لها تأويلاً (أي: تفسيراً) لمعانيها الصحيحة من نصوص كتبهم المقدسة لديهم - حيث إن الكتاب الواحد يفسر بعضه بعضاً - وما يمكن أن تحمل عليه من المعاني الصحيحة بحسب سياق الكلام وبما يناسب إطلاقها عليه. فإن ألفاظ: (الإله والرّبّ) إذا أطلقت على الله فإنها تحمل على حقيقتها وما يستلزمه مقام الربوبية والألوهية من التعظيم والتنْزِيه والتفرد.
وإذا ما أضيفت إلى المخلوقين وأطلقت عليهم فإنه يراد بها التكريم والتفخيم والتدبر والرعاية والتعليم بحسب ما يناسب مقام العبودية والبشرية.
وكذلك لفظة: (الابن) إذا ما أضيفت إلى الله عزوجل فإنها لا تعني بنوة الولادة أو الانفصال عن الله عزوجل - كما توهمه النصارى - حيث لم ينفرد المسيح بإطلاقها عليه، بل شاركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين في التوراة والإنجيل - ممن لم يدع أحد فيه الألوهية فإنها تعني حينئذٍِ بنوة الطاعة والمحبة.
أما قول المؤلِّف: "فإذا ورد لفظ ... الخ"، فهو نفس القانون الكليّ في التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية الذي توهمه الرازي في كتابه: (أساس التقديس ص ١٧٢) ، وقد سبقه إليه طائفة من أئمة الأشعرية منهم: أبو حامد الغزالي وابن العربي والجويني والباقلاني. (ر: المواقف للأيجي ص ٣٩، وأصول الدين للبغدادي ص ١٢) .
وقد أبطل الإمام ابن تيمية قانونهم الكلّي في كتابه: "درء تعارض العقل والنقل"، حيث قال: "ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كلّ فريق لأنفسهم قانوناً فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردّوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين، فمن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن.
وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء. ثم ذكر الإمام ابن تيمية جوابين في الرّدّ على قانونهم: جواب إجمالي وتفصيلي:
أما الإجمالي فيقول: والكلام على هذه الجملة بني على بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية على مقدمات - أوّلها - ثبوت تعارضهما - والثانية - انحصار التقسيم فيما ذكروه من الأقسام الأربعة - والثالثة - بطلان الأقسام الثلاثة.
والمقدمات الثلاثة باطلة، وبيان ذلك بأصل وهو: أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان - سواء كانا سمعيين أو عقلين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً - فالجواب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين. وأما أن يكون أحدهما قطيعاً والآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما، وهذا متّفق عليه بين العقلاء؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة.
وحينئذٍ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم الجمع بين النقيضين وهو محال. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتّفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظنّ لا يرفع اليقين.
وأما إن كان جميعاً ظنيّين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سمعياً أو عقليّاً.
فتبيّن أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط - أي: القانون السابق - يقع فيه كثير من الناس، يقدِّرون تقديراً يلزم منه لوازم فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . [سورة الأنبياء، الآية: ٢٢ [. اهـ.
(ر: درء تعارض العقل والنقل ١/٤-٧، ٧٨-٨١، بتصرف يسير) .
وأما الجواب التفصيلي فقد شغل معظم أجزاء الكتاب الذي يقع في عشرة أجزاء بتحقيق د. محمّد رشاد سالم.
مما سبق يتبيّن لنا فساد ما ذكره المؤلِّف - عفا الله عنه وعنا - في مقدمة الباب الثالث؛ فإن الباطل لا يرد بباطل مثله. كما أنه يستلزم أن يتسلط النصارى على المسلمين بهذا القانون الكليّ الفاسد فيطالبون بتأويل ما ورد في القرآن الكريم والسنة من الألفاظ الشرعية كالصلاة والزكاة ونحوه بحملها على ظواهرها اللغوية ونفي معانيها الشرعية، وغير ذلك من الأمور التي تلزم قانونهم الفاسد.

<<  <  ج: ص:  >  >>