للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣٨- خطبة أخرى:

قال الطبري: وقام أيضًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"إن الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، واعلموا أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه، من أيام فانية لأخرى باقية، لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم. أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون؟ وأين الذين كانوا لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميمًا، قد تركت عليهم القالات١ الخبيثات، وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا، ونسي ذكرهم، وصاروا كلا شيء؛ ألا وإن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفًا من بعدهم؛ فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا مثلهم، أين الوضاء٣ الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابًا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعجايب؟ قد تركوها لمن خلفهم؛ فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزًا٣؟ أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا، فحلوا عليه، وأقاموا للشقوة وللسعادة فيما بعد الموت،


١ القول: في الخيرة، والقال والقيل والقالة: في الشر.
٢ الوضاء جمع وضيء: وهو الحسن والنظيف، وهو أيضًا وضاء بضم الواو وتشديد الضاد، وجمعه وضاءون.
٣ الصوت الخفي.

<<  <  ج: ص:  >  >>