للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣- مكانة مكة:

أصبحت مكة منذ آل أمرها إلى قريش على أيام قصي مركزًا للحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية، تشد إليه الرحال، وتشخص إليه الأبصار، وفيها أكثر من كل جهة سواها، كانت ترعى الأشهر الحرم، بسبب وجود الكعبة المشرفة هناك، لذلك كله، ولمركزها الممتاز في تجارة العرب، كانت تعتبر وكأنها عاصمة شبه الجزيرة العربية.

وفي الواقع أنه رغم وجود "البيوت الحرام" في بلاد العرب، كبيت الأقيصر وبيت ذي الخلصة وبيت صنعاء وبيت نجران، وغيرها من البيوت الحرام١، فإن واحدًا منها لم يجتمع له ما اجتمع لبيت مكة، ذلك لأن مكة إنما كانت ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، ولمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، ولم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها، فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن، أو المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان، كسلطان الروم أو الفرس أو الأحباش، وراء الإمارات العربية المتفرقة على الشواطئ أو بين بوادي الصحراء، وإنما كانت مكة بمثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش فيها ولا يبالي من عداه وهي وإن لم تكن كذلك من أقدم زمانها، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جرهم والعماليق، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يعشرون كل ما دخلها من تجارة٢.

وزاد من قيمة مكة أن اليمن -بعد الاحتلال الحبشي في عام ٥٢٥م- لم تنجح في سد الفراغ الذي تركته البحرية الرومية، ربما لظروف جغرافية أكثر منها سياسية، ومن ثم فقد أصبح الطريق البري -عبر تهامة والحجاز- هو الطريق الوحيد المفتوح


١ انظر: ياقوت ١/ ٢٣٨، ٣/ ٤٢٧، ٤/ ٣٩٤-٣٩٥، ٥/ ٢٦٨-٢٦٩، بلوغ الأرب ١/ ٣٤٦-٣٤٧، ٢/ ٢٠٢، ٢٠٧-١٠٩، ١١٢، جمهرة أنساب العرب ص٤٩٣، الأصنام ص٣٨، الروض الأنف ١/ ٦٦، الأغاني ٣/ ١٧٢.
٢ العقاد: مطلع النور ص١١٢-١١٣.

<<  <   >  >>