للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الكلام والتفريق بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح.

الثانية: أن يكون قد أوتي حظًّا من التمييز بين الأساليب ومعرفة درجات البلاغة والفصاحة.

فإن كنت من الفئة الأولى فلا سبيل لك لمعرفة إعجاز القرآن وبلاغته بحسك وذوقك، وإنما سبيلك أن تقنع بشهادة أهل الخبرة والمعرفة، وهم هنا أهل الفصاحة والبلاغة، والبيان والبديع وأعلمهم بذلك سليقة، وأجودهم فطرة، وأتقنهم تربية وسماعًا هم من نزل عليهم القرآن، وأولئك قد أقروا بذلك في مشاهد عديدة، وأقوال كثيرة، فهذا الوليد بن المغيرة يقول لمن أنكر عليه سماعه للقرآن وتأثره به: "والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} ١ وقد وصف الله تفكيره بقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ٢.

قال الدكتور محمد عبد الله دراز: "فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني حيث يقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، {ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر} ، معنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته ويستكره نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق ما يقول.. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادة قومه، وانظر الفرق بين


١ رواه الحاكم في مستدركه ج٢ ص٥٠٦، ٥٠٧ وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والآية ١١ من سورة المدثر.
٢ سورة المدثر: الآية ١٨- ٢٥.

<<  <   >  >>