للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤٦- فصل: احذروا الترخّص فيما لا يؤمن فساده

٢٣٧- كنت في بداية الصبوة١ قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلبًا طيِّبًا، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر٢ الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة، فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة. ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة، ثم جاء التأويل، فانبسطت فيما يباح، فعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة، وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب، إلى أن عدم النور كله، فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلسًا فيما بيني وبين حالي!

٢٣٨- وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طلب نفسي، فلجأت إلى قبول الصالحين، وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي على بعد نفور مني، وأراني عيب ما كنت أوثره، فأفقت من مرض غفلتي، وقلت في مناجاة خلوتي:

"سيدي كيف أقدر على شكرك؟ وبأي لسان أنطق بمدحك، إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي، وأصلحت حالي على كره من طبعي؟!

فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك!

وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي٣ على الخلوة بك! وما أغناني إذ أفقرتني


١ الصبوة: الصِّبا.
٢ تبادر: تسارع.
٣ في حاشية الأصل: في الأصل: إقبالك.

<<  <   >  >>