للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جهنم، وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.

فهاتان الداران هما دارا القرار. وخلق داراً ثالثة هى كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهى دار الدنيا، ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأى عين، ليصير للإيمان بالدارين- وإن كان غيباً- وجه شهادة تستأنس به النفوس وتسدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التى جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخى كما قيل:

فإذا رآك المسلمون تيقنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالد

فشمروا إليها وقالوا: اللَّهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً وجداً وتشميراً، لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هى عشية أو ضحاها.

فوجود تلك المشتهيات والملذوذات فى هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التى هى أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهى زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التى أودعها تلك الدار، فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم فى جوار الرب الكريم.

وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما فى دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانك النفسان آثاراً ظهرت فى هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة.

وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: ٧٣] ، تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواءِ وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقِى والقَوَى وهى الأرض

<<  <   >  >>