للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَجُوزُ وَهَذَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ خَفِيَّةً بِقَدْرِ الْمَذْبُوحِ فَلَا يَضْمَنُ الثَّانِي وَيُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا يُضَافُ إلَى الثَّانِي وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْرُمُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَعَنْهُ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي وَلَوْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ الْآخَرُ أَوْ رَمَاهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ رَمَاهُ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الْأَوَّلُ أَوْ بَعْدَمَا أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُثْخِنَهُ فَأَصَابَهُ الْأَوَّلُ فَأَثْخَنَهُ أَوْ أَثْخَنَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَيُؤْكَلُ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ حَالَ إصَابَةِ الثَّانِي غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَلَا يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَمَاهُ الثَّانِي بَعْدَمَا أَثْخَنَهُ الْأَوَّلُ قُلْنَا: عِنْدَ رَمْيِ الثَّانِي هُوَ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ فَوَقَعَ رَمْيُهُ ذَكَاةً وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الرَّمْيِ فَكَذَا الِامْتِنَاعُ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ سَهْمَهُ أَخْرَجَهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَمَلَكَهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ بِسَهْمِ الثَّانِي.

فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَالضَّمَانِ وَقْتُ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ إلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ فَلَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ ذَكَاةٌ فَيَحِلُّ الْمُصَابُ لِأَنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِفِعْلِهِ، وَفِعْلُهُ هُوَ الرَّمْيُ وَالْإِرْسَالُ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُهُ وَفِي حَقِّ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِثْخَانِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَزُفَرُ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْإِثْخَانِ فِيهِمَا وَلَوْ رَمَيَاهُ مَعًا، وَأَصَابَاهُ مَعًا فَمَاتَ مِنْهُمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ وَالْبَازِي وَالْكَلْبُ فِي هَذَا كَالسَّهْمِ حَتَّى يَمْلِكَهُ بِإِثْخَانِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ إمْسَاكُهُ بِدُونِ الْإِثْخَانِ حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ بَازِيَهُ فَأَمْسَكَ الصَّيْدَ بِمِخْلَبِهِ وَلَمْ يُثْخِنْهُ، وَأَرْسَلَ الْآخَرُ بَازِيَهُ فَقَتَلَ ذَلِكَ الصَّيْدَ فَإِنَّ الصَّيْدَ لِلثَّانِي وَحَلَّ؛ لِأَنَّ يَدَ الْبَازِي الْأَوَّلِ لَيْسَتْ يَدًا حَافِظَةً لِتُقَامَ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ أَمَّا الْقَتْلُ فَهُوَ إتْلَافٌ وَالْبَازِي مِنْ أَهْلِ الْإِتْلَافِ فَيُنْقَلُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ رَمَى سَهْمًا فَأَصَابَ الصَّيْدَ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فَقَتَلَهُ حَرُمَ لِمَا بَيَّنَّا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَحَلَّ اصْطِيَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: ٢] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالْمَأْكُولِ، إذْ الصَّيْدُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ قَالَ الشَّاعِرُ

صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبُ ... وَإِذَا رَكِبْتَ فَصَيْدُكَ الْأَبْطَالُ

وَلِأَنَّ الِاصْطِيَادَ سَبَبُ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ رِيشِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ لِاسْتِدْفَاعِ شَرِّهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[كِتَابُ الرَّهْنِ]

وَجْهُ مُنَاسَبَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ لِكِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّهْنِ وَالصَّيْدِ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْكَلَامُ فِي الرَّهْنِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ فِي مَعْنَاهُ لُغَةً. وَالثَّانِي فِي دَلِيلِهِ. وَالثَّالِثُ فِي رُكْنِهِ. وَالرَّابِعُ فِي شَرْطِ لُزُومِهِ. وَالْخَامِسُ فِي شَرْطِ جَوَازِهِ. وَالسَّادِسُ فِي حُكْمِهِ. وَالسَّابِعُ فِي سَبَبِهِ. وَالثَّامِنُ فِي صِفَتِهِ. وَالتَّاسِعُ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَالْعَاشِرُ فِي مَحَاسِنِهِ. أَمَّا مَعْنَاهُ لُغَةً فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَبْسِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: ٣٨] أَيْ مَحْبُوسَةٌ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ الْمَعَاصِي يُقَالُ رَهَنْت الشَّيْءَ وَارْتَهَنْته وَالْجَمْعُ رُهُنٌ وَرُهُونٌ وَرِهَانٌ وَالرَّهْنُ الْمَرْهُونُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَأَمَّا دَلِيلُهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] أَمْرٌ بِأَخْذِ الرَّهْنِ وَقَبْضِهِ حَالَ الْمُدَايَنَةِ. وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاهِنِ رَهَنْت عِنْدَك هَذَا الشَّيْءَ بِمَا لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ خُذْهُ وَالْقَبُولُ شَرْطٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الرَّهْنَ بِذَاتِهِ شَيْئًا وَالتَّبَرُّعُ يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَرْهَنُ فَرَهَنَ، وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ يَحْنَثُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ شَرْطُ اللُّزُومِ وَهُوَ الْقَبْضُ. وَأَمَّا الْخَامِسُ وَهُوَ شَرْطُ الْجَوَازِ فَكَوْنُهُ مَقْسُومًا مُفْرَزًا فَارِغًا عَنْ الشُّغْلِ بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ بِحَيْثُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ كَالدَّيْنِ حَتَّى لَا يَصِحَّ الرَّهْنُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعِتْقِ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمَلَك الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ فِي حَقِّ الْحَبْسِ حَتَّى يَكُونَ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهِ إلَى وَقْتِ إيفَاءِ الدَّيْنِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ دَيْنَهُ وَمَا فَضُلَ فَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ. وَأَمَّا سَبَبُهُ فَهُوَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يَجِدُ مَنْ لَا يُقْرِضُهُ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ رَهْنٍ أَوْ يَصْبِرُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رَهْنٍ. وَأَمَّا صِفَتُهُ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَمَّا التَّاسِعُ وَهُوَ تَفْسِيرُهُ شَرْعًا فَسَيَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ. وَأَمَّا الْعَاشِرُ وَهُوَ مَحَاسِنُهُ فَهُوَ فَكُّ عُسْرَةِ الطَّلَبِ عَنْ الرَّاهِنِ وَوُثُوقُ قَلْبِ الْمُرْتَهِنِ بِمَا يُحَصِّلُ مَالَهُ، وَلَوْ ارْتَهَنَ عَلَى أَنَّهُ ضَاعَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَأَجَازَ الرَّاهِنُ جَازَ الرَّهْنُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِعَقْدٍ مَوْضُوعٍ بِحُكْمٍ مَشْرُوعٍ وَتَبْدِيلُ الْمَشْرُوعِ لَا يَجُوزُ، وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ مَضْمُونٌ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى

<<  <  ج: ص:  >  >>