للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى مَنْ مَلَكَ قُوتَ يَوْمِهِ فَقَطْ تَكُونُ هِبَةً حَتَّى يَثْبُتَ فِيهَا أَحْكَامُ الْهِبَةِ مِنْ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِخِلَافِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْغَنِيِّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا لَكِنْ يُمْكِنُ دَفْعُ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الدَّفْعَ لَيْسَ إعَانَةً عَلَى الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا هِيَ بِالسُّؤَالِ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الدَّفْعِ، وَلَا يَكُونُ الدَّفْعُ إعَانَةً إلَّا لَوْ كَانَ الْأَخْذُ هُوَ الْمُحَرَّمَ فَقَطْ فَلْيُتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) .

لَمَّا كَانَ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِالزَّكَاةِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَالِيَّةً وَبِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِهَا الْفِطْرُ بَعْدَ الصَّوْمِ ذَكَرَهَا بَيْنَهُمَا، وَالصَّدَقَةُ الْعَطِيَّةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الْمَثُوبَةُ عِنْدَهُ - تَعَالَى - وَسُمِّيَتْ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ صِدْقَ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي تِلْكَ الْمَثُوبَةِ كَالصَّدَاقِ يَظْهَرُ بِهِ صِدْقُ رَغْبَةِ الزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ، وَالْفِطْرُ لَفْظٌ إسْلَامِيٌّ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ كَأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ بِمَعْنَى الْخِلْقَةِ.

وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا فِي السَّنَةِ الَّتِي فُرِضَ فِيهَا رَمَضَانُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ زَكَاةُ الْمَالِ وَكَانَ يَخْطُبُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ يَأْمُرُ بِإِخْرَاجِهَا كَذَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ وَالْكَلَامُ هَا هُنَا فِي كَيْفِيَّتِهَا وَكَمْيَّتِهَا وَشَرْطِهَا وَحُكْمِهَا وَسَبَبِهَا وَرُكْنِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَوَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ فَالْأَوَّلُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَمَا فِي الْكِتَابِ وَأَرَادَ بِهِ الْوُجُوبَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ لَفْظُ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرَ أَمْرَ إيجَابٍ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ بِظَنِّيٍّ إنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَالْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى وُجُوبِهَا لَيْسَ قَطْعِيًّا لِيَكُونَ الثَّابِتُ الْفَرْضَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَوَاتُرًا؛ وَلِهَذَا قَالُوا: مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهَا لَا يُكَفَّرُ وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي فَقِيلَ تَجِبُ وُجُوبًا مُضَيَّقًا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ عَيْنًا، وَقِيلَ: تَجِبُ مُوَسَّعًا فِي الْعُمُرِ كَالزَّكَاةِ وَصَحَّحَهُ فِي الْبَدَائِعِ مُعَلِّلًا

ــ

[منحة الخالق]

(قَوْلُهُ: لَكِنْ يُمْكِنُ دَفْعُ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ إلَخْ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِعَانَةِ عَلَى السُّؤَالِ أَنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لِسُؤَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا لِهَذَا السُّؤَالِ الْمَخْصُوصِ ثُمَّ رَأَيْت الْعَلَّامَةَ الْمَقْدِسِيَّ اعْتَرَضَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

(قَوْلُهُ: وَالْفِطْرُ لَفْظٌ إسْلَامِيٌّ إلَخْ) اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فَقَالَ فِيهِ: إنَّ الْفِطْرَ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الصَّوْمِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: فَطَرَ الصَّائِمُ أَكَلَ وَشَرِبَ كَأَفْطَرَ، وَقَالَ فِي حَرْفِ الْمِيمِ: الصَّوْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْكَلَامِ اهـ.

فَلْيَنْظُرْ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ إسْلَامِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ اهـ.

وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ جُعِلَتْ اسْمًا لِفِطْرِ الصَّائِمِ كَالصَّلَاةِ لَمْ يَظْهَرْ إلَّا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَهُ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُطْلَقُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ مُفْطِرٍ شَرْعًا وَذَلِكَ لَمْ يُعْهَدْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلِذَا كَانَ إسْلَامِيًّا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ كَمَا يُوهِمُهُ قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ سَاقَهَا فِي الْفَتْحِ مِنْهَا مَا سَيَذْكُرُهُ الْمُؤَلِّفُ، هَذَا وَفِي النَّهْرِ وَأَمَّا لَفْظُ الْفِطْرَةِ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَمُوَلَّدٌ حَتَّى عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ لَحْنِ الْعَامَّةِ كَذَا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ اهـ.

وَالْمُرَادُ الْفِطْرَةُ اسْمًا لِصَدَقَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِلَّا فَلَفْظُ الْفِطْرَةِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَالَ - تَعَالَى - {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: ٣٠] ، وَفِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ قَالَ الْفِطْرَةُ بِالْكَسْرِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْخِلْقَةُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا الْمَوْلُودُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ وَالدِّينُ اهـ.

وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا لَكِنْ اعْتَرَضَهُ بَعْضُهُمْ كَمَا نَقَلَهُ نُوحٌ أَفَنْدِي بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخْرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ لَمْ يُعْلَمْ إلَّا مِنْ الشَّارِعِ فَأَهْلُ اللُّغَةِ يَجْهَلُونَهُ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ فَخَلَطَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِ، وَكُلُّهُ غَلَطٌ يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ اهـ.

وَبِهِ تَأَيَّدَ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ أَنَّهُ مُوَلَّدٌ لَكِنْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْمُغْرِبِ أَنَّ الْفِطْرَةَ قَدْ جَاءَتْ فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْهَا فِيمَا عِنْدِي مِنْ الْأُصُولِ اهـ.

وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصَّدَقَةُ الْمَخْصُوصَةُ وَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّهَا بِمَعْنَى الْخِلْقَةِ وَقَدَّرْنَا مُضَافًا أَيْ صَدَقَةُ الْخِلْقَةِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَعْنَى زَكَاةِ الْبَدَنِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ قَطْعًا.

[حُكْم صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

(قَوْلُهُ: وَصَحَّحَهُ فِي الْبَدَائِعِ) أَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْبَدَائِعِ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَعِبَارَةُ الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ يُعْرَفُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَيَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا أَوْ آخِرَ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْكَفَّارَاتِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُخْرِجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>